ديوان "يوم قابيل والأيام السبعة للوقت" للكاتب والشاعر السوري نوري الجرّاح، الصادر عن "دار راية" في حيفا، يضم قصائد تستوحي أَجواء المحنة السورية الراهنة، والتي يطفر فيها الدم غزيراً، جرّاء توحش السلطة الحاكمة ضد الشعب السوري في ثورته.
You are here
قراءة كتاب يوم قابيل والأيام السبعة للوقت
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 6
فإنّ مناخات الفقد والغياب، حين تتصل بمعنى الموت على وجه الدقة، لا تتصاعد وفق معجم رثائي تقليدي، ولا اتكاء على استثارة العواطف، أو تبجيل الغائب، أو حشد مشاهد جنائزية وتأبينية؛ بل على ما يلوح أنه إمعان قصدي في تجاوز هذه كلها، بل انتهاكها، بغية ترقية الأسى الرثائي ليس عن طريق التسامي على الألم، بل بوسيلة أدائه جمالياً، شعرياً، وفنّياً في نهاية المطاف.
تنويع آخر يستكمل المرثية المضادة، هو رثاء الذات، واستنفار الصوت الناطق بضمير المتكلم، المفرد أو الجَمْعي، ثمّ رثاء هوية الشاعر بصفة مخصصة، هو الذي يحدث مراراً أن يُتهم، وقصيدته، ليس بالعمى فحسب؛ بل بما هو أدهى وأمرّ: «ها إن يدَك التي كبُرتْ واخشوشنت/ تتلطخ بدمي/ أخرجُ من باب وتخرجُ من باب/ لا أكون صورتَكَ ولا تكون صورتي»! تلك عتبة دنيا من اختلاط الحداد العميق بالرغبة العارمة في تأسيس فضاء مشترك مع الغائب، أو تأصيل مفهوم الغياب عموماً؛ واستحالة بلوغ ذلك الفضاء ضمن علاقة متقابلة، ومتضاربة أحياناً، بين الأنا الناطق والآخر المخاطَب. وتلك معضلة المكوث، الاختياري او القسري، في برزخِ ذَنْبٍ وسيط، يتقاذفه قطبان: الحاجة إلى استيهام الحضور (حتى في صورة دم الشاعر، على يد كبرت واخشوشنت)، والحاجة إلى الإقرار بالغياب (حتى على صعيد تنافر الصور، وتنائي الأبواب). بل إنّ الجراح ـ كلما تواترت، وتوترت، استقطابات هذا البرزخ، فاختلط الفردي المنكمش بالكوني المنفتح ـ بدا أقرب إلى إطلاقِ ضدٍّ لمرثية الضدّ الذاتية هذه: لا يمحض نفسه عزاءً كافياً، ولا يتسامى على الشجن المتصاعد، إلا إذا ذهب بالشعر إلى مستويات أعلى، وأشدّ وطأة، في مساءلة الذات، وملامة القصيدة، عن غياب الغائبين؛ وربما اتهام أيّ من أنساق العزاء الشائعة، والتي لا يغيب بعضها عن ترسانة الجراح الدلالية، بالقصور في تخفيف الآلام العميقة، أو بالعجز عنها أيضاً.
تنويع ثالث، لعلّه حامل العبء الأكبر في تحقيق انفتاح المرثية المضادة، هو نقل الشجن العميق، ومجمل متواليات الحداد والأسى والحزن والألم المرتبطة بالغياب عموماً، وهذه الأنماط من الموت خاصة، من حال «الخصخصة» التي اعتادت أن تُحبس بين جدرانها (ومن هنا ضيق الطرائق التقليدية التي رسّخت الرثاء كـ«غرض» شعري)، إلى حال أخرى عامة، بمعنى ما يمكن أن يمارسه الفردي من تعميم على الجماعي؛ وعمومية، بمعنى أنها تخصّ العموم، الأفراد والجموع، على حدّ سواء. قصائد مثل «أغنية في مركب»، ونشيد متأخر لبحار قديم»، و«مرئيات من وراء زجاج في يوم بارد»، و«كلمات الشقيق»... تُبقي تلك المتواليات تحت قواعد ضبط عالية، تكفل عدم انفلات المشاعر أو انزلاق اللغة إلى التهويل العاطفي؛ ولكنها، في الآن ذاته، تستحثّ بواطن شعورية أعمق تبيح تكشّف تلك المتواليات، وتذكّرنا بأنّ المرثية المضادة ليست ملاذاً للشعائر الجنائزية، والنحيب على الغائب، وامتداح خصاله وتبجيل شخصه؛ بل هي فضاء جمالي وثقافي وإنساني مركّب، معقد العناصر، شديد الاضطرام والاعتمال، لا يترفع عن أهوال التاريخ وخشونة دروبه وحوادثه ومساراته، ولكنه أيضاً لا يزعم امتياز تدوين التاريخ، ولا يتيح ذلك في الأصل.
يكتب الجراح: «أصغرنا تركناه في المدينة / وتركنا في عهدته قمحاً / ودّعناه بالأكباش، وودّعناه بالرنين / ولمّا تلفّت../ رأينا في يديه الغياب». ويكتب، في قصيدة أخرى: «في المدينة الدامية، المدينة الدامية / القمرُ صخريٌ /والضوء يسيل من عنق الفتى / يدي / في الوريد / معصم الموجة». وفي قصيدة ثالثة: «لأني رأيت مصرعي في ساعة / على مقعد في حنان الشمس / مصرعي / الذي / رأيته / يوماً لاعباً في زقاقٍ غريب / رأيته / ومشيت / في إثره». هذه أمثلة، لامعة الصياغة وجلية الوظيفة، تبيّن مقدار النجاح الذي يحققه الجراح في نقل الرثاء بعيداً عن مواضعات المرثية التقليدية، وفي ترجمة ما هو ذاتي وفردي وشخصي، تأبيني أو حدادي، إلى تمثيلات كونية، تشاركية، جَمْعية، سياسية، تاريخية... ولكنها، أوّلاً وآخِراً، صناعة جمالية حاذقة، تتوسل فنّ الشعر، وتروم كتابة قصيدة رفيعة.
* * *
في غمرة هذا الإبحار الصعب عبر لجّة المجازفات الثلاث، ينجز نوري الجراح الكثير من شروط رهان، مجازف بدوره، طرحه قبل مئتَي سنة الشاعر والناقد الألماني فردريش شليغل: «إذا أردتَ الدخول إلى أعماق العالم المادّي، فدَعْ نفسك تتدرّب على غوامض الشعر». وفي الإنجاز الكبير، هذا، ثمة ربح وفير نجنيه، نحن القراء؛ ويجنيه الشعر أيضاً، غنيّ عن القول.
باريس، آب (أغسطس) 2012