رواية "سارة" للكاتب السعودي صالح بن ابراهيم السكاكر، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، قد تكون مثالاً واضحًا عن سعي الى الاتيان بجديد على صعيدي الاسلوب والمحتوى لكن الامر يتحول الى عكس ما هو مستهدف ويتحول الى ما يمكن وصفه بانه عبء على الكاتب والقا
You are here
قراءة كتاب سارة قصة الحب الخالدة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 5
المصير·· إنه الحجر الذي وضع أمام كل البشر، فمصير الإنسان أن يعيش حتى يخلق الذكريات، فكل لحظة تمر في حياته تعني ذكرى تشكلت في ماضيه، فكيف هو الإنسان عندما يكون وحيداً مثلي، وحيد لا توجد في داخله سوى ذكريات، ذكريات حفرتها السنوات التي عاشها سابقاً، لابد أن يأتي يوم ما ويخرج كل ما علق في داخله وينفجر انفجاراً دامياً مروعاً، إنه في ذلك اليوم لا يخاطب البشر فقط بل يخاطب الأرض والسماء، الأحياء والأموات، يخاطب الحجر والبحر، يخاطب كل شيء موجود على هذه الأرض ··
ذكريات حياتي، ذكريات طفولتي التي أنثرها على الأوراق حتى أخاطب قلوب البشر، عندما عزمت على كتابة قصة حياتي تساءلت: هل أريد أن تدمع عيون البشر؟هل أرغب بالحزن أن يسيطر على قارئها؟ وتساءلت أيضاً : هل أستطيع أن أجعل من قصتي حدثاً يومض كالنجوم في عالم الحياة الاجتماعية؟ تساءلت كثيراً وترددت أكثر، فعندما بلغت سن الأربعين بدأ الاستفهام الكبير يسيطر على عقلي: هل أكتب قصتي التي تملأ النفس حزناً، أو قد تملؤها شموخاً وكبرياء؛ أو قد تجعلها قلقة خائفة من الغد، ومن حقيقة أن كل شيء له مصير وهو الزوال! عشت التساؤل والاستفهام بكل معانيهما وصورهما، كتبت وأحرقت وها أنا أكتب عازماً ألا أحرق شيئاً، فقط أكتب قصة رجل عمره قد تجاوز الأربعين خريفا، رجل أربعيني كان لابد أن يكتب، على رغم معرفتي أني بكتابة قصتي سأخسر أناساً كثر في حياتي، ولكن يجب أن أكتب لأن الكتابة في واقعي تعني حصول الهدوء الروحاني والاستقرار النفسي اللذين أحتاجهما·· كان لابد أن أكتب··
·· تبدأ ذكريات طفولتي في نحو السابعة من عمري، لا أدري لم لا أذكر شيئاً قبل ذلك العمر؛ قد يكون السبب عدم وجود ما يستحق أن يظل في ذاكرتي أو أن يشكل أثراً مهماً في طفولتي، ولكن منذ بلغت سن السابعة وأنا أرى كل تفاصيل حياتي، وأرى كل الأحداث جيداً، ولا يغيب عن بالي أي حدث، وكأن تلك الأحداث قد وقعت قبل لحظه من الآن! فمنذ سن السابعة شعرت بنمو متسارع نمو عقلاني أكثر منه جسدياً، نمو في الأفكار وفي رؤية الوجود، أحياناً أقول إن هذا العمر هو المرحلة التي من بعدها تبقى الذكريات محفورة ومنتصبة في ذاكرة الإنسان، وأحياناً أشعر، وهو الأقرب لي، أن سبب بقاء ذكرياتي بعد سن السابعة هي تلك الحادثة التي هزت مشاعري وجعلتني أستيقظ من أحلام الطفولة، تلك الحادثة التي أقلقت فكري وجعلتني أخاف من كل شيء سوى من أبي العظيم ··
·· في ذلك اليوم من أيام الصيف الحارة عدت مبكراً من المدرسة، دخلت المنزل وإذ بي أسمع بداية مناقشة حادة بين أبي وأمي، وكانت أول كلمات التقطتها أذناي، صوت أمي تصرخ بشدة في وجه أبي قائلة:
- طلقني يا محمد، طلقني، لا أريد أن أظل معك! لا يوجد أي ارتباط! لا يوجد أي شيء يربطني بك! أبي الذي أجبرني على الزواج منك لأنك ابن عمي، قد مات لقد مات! لذلك طلقني لا أريدك!
·· كنت أستمع إلى كلمات أمي أو إلى كلمات تلك المرأة الغريبة عني! تلك المرأة التي لا أعرفها ولا أعرف لماذا تعيش هنا! كنت أستمع، طفل صغير كان يسمع كلمات من امرأة يقال إنها أمه! كنت أستمع وعيناي تبكيان بل تنزفان ألماً وحسرة وخوفاً وتصرخان من أعماق الروح قائلتين : لماذا أنتِ كذلك يا أمي! وبينما دموعي تتناثر على خداي، على خديّ طفل إذ بأبي العظيم، أبي الذي كنت ومازلت أراه ألطف مخلوق وأسمى من كل الآخرين الذين أراهم ورأيتهم ليلاً ونهاراً! لقد كان أبي في كل حادثة، وفي كل موقف، يبرهن على صدق ما أشعر به وما أؤمن به تجاهه، وإذ به يتحدث رداً على كلمات تلك المرأة قائلاً :
- لا يوجد أي رابط! كيف ذلك!؟ وطفلكِ وليد أليس هو أعظم رابط! اسمعيني يا منيرة، بل اسمعيني يا زوجتي يا أم وليد؛ لقد صبرت كثيراً لأجل هذا الطفل، وسأظل أصبر لأجله وأيضا لحبي لكِ، أتفهمين أحبكِ، أحبكِ أكثر من أي شيء، وأعلم أن هذا الحب بعيداً عن قلبكِ تجاهي، ولكن يجب أن أصبر لأجل وليد، يجب ألا ينهدم هذا المنزل ··
قال كذلك أبي وخرج من غرفة النوم مسرعاً، ولم يتوقف إلا عندما رآني ودموعي تصرخ صراخاً مريراً على خديّ، فضمني بقوة فأحسست بمعنى الحنان الذي سُلب من واقعي وأنا طفل، سُلب من قلب أمي تجاهي! مسك يديّ وكعادته بعد عودتي من المدرسة اصطحبني متنقلاً معه بين حقول النخيل، كانت تلك الساعات التي أعيشها فقط أنا وأبي والنخيل المترامي من حولنا هي من شكلت في عقلي الكثير من الأفكار والقيم، كان أبي في تلك النزهة يعلمني ويثقفني، ولن تغيب كلماته التي ما زالت ترن في وجودي بعد تلك الحادثة، فقد كنت تعيساً جداً، وكان اليأس يقتحم كل ذرة في محيطي، ولسبب أعرفه جيداً كنت أريد أن أكذب عليه! ألا أبين له تعاستي وخوفي، كنت أرغب بإخفاء وكتم ذلك الشعور المرير الممتلئ ألماً وخوفاً، كنت أفعل ذلك لأجل زرع الفرح في قلب أبي، الذي حينما أتذكره الآن فأنا أنسى كل ما هو شرير ونجس وقاس وحقير في هذه الحياة، بل إن كل شيء يتغير ويصبح أكثر طيبة وجمالاً ويغدو الناس أكثر بهاء ومحبة، فقط عندما أتذكر أبي، لقد أحببته أكثر من أي شيء آخر في طفولتي ··
·· وقفت مع أبي عند تلك النخلة التي غرسها يوم ولادتي وأسماها باسمي، جلس أبي مستنداً بظهره، كانت عيناه السوداوان تنظران دائماً نحو مكان بعيد، مليئتين بحزن عميق يتلاشى بابتسامته اللطيفة المحببة لقلبي، وشفتاه المرتعشتان تتدليان كأنها رُطب تمر تهب عليها الريح، وحاجباه الكثيفان يستقران داخل عينيه، أمرني أن أجلس بجانبه، وبدأ يتحدث قائلاً :
- الحب يعني غياب الحرية، فنحن يا ولدي عندما نحب نتجرد من حريتنا، ونجعل طرفاً آخر يمتلكنا ويتحكم في حريتنا، إن المحب هو كمن يحاول إمساك الهواء؛ فهو مهما حاول وظل؛ سيظل غير قادر على إمساكه والقبض عليه، لأنه هواء والحب كذلك يا طفلي، محاولة يائسة منا لأن نشعر بالحياة وبجمالها، فنحن كثيراً ما نُحب لأننا نبحث عن أنفسنا في هذا الوجود، إننا نحاول أن نجد أنفسنا ونحن في الحقيقة، ومن منظور العقل، نبيع ونتخلى عن حريتنا بطلب الحب! وهذا ما يحصل لي مع أمك لأني أحبها؛ فأنا كورقة في مهب الريح تتقاذفها الرياح من مكان إلى آخر؛ وهي أي الورقة لا تئن ولا تشكو ولا تفعل أي شيء سوى أن تظل وفية! الحب هو الوفاء يا ولدي··
هو كذلك أبي الفيلسوف العظيم، لقد كنت أتأمل عينيه، وكنت أشعر أنه لا يخاطبني حينما يقول : يا ولدي بل يخاطب تلك الآلاف من النخيل التي غرستها أنامله العظيمة، إلى تلك النخيل التي أحبها وعاش يتأملها وهي تكبر وتكبر·· لقد علمني أبي، قبل كل الصراعات والمعارك التي حصلت في تاريخ البشرية أجمع، علمني الحب، علمني الوفاء، علمني أن لا حياة كريمة من دون الحب والوفاء، علمني أنه إذا وجد الحب والوفاء في مكان وزمان ما فإنه ستعم الخيرات والبركات، فقط بوجود الارتباط القوي بين الحب والوفاء ·· ألا فلتعلموا أطفالكم الحب والوفاء قبل كل شيء ··