في روايته السابعة "مديح الهرب"، يعود الكاتب السوري خليل النعيمي ليمنح من المادة الخام الاثيرة لديه: سيرته الذاتية التي طالعتنا مراحل منها في "الشيء" و"الخلعاء" و"تفريغ الكائن" و"القطيعة".
You are here
قراءة كتاب مديح الهرب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 2
زكي من الكُرْد· شاب قصير· نحيف· ذو أسنان مربوط بعضها ببعض بدقة وتصميم· ومع ذلك َفقَدَ جزءاً كبيراً منها، دون أن يستطيع تعويضه· يَلوك الكلمات، كما تلوك الناس الطعام· وعندما يقذف الأحرف من فمه الأشقر الضيق، أحسه يرتاح مثل َمنْ يتحرر من غازات معدته التي تلحُّ عليه منذ ساعات·
أعرف أنها ستجيء· أَتمنى ذلك، دون أن أجرؤ على البوح به لنفسي· كانت الدنيا قَيظاً عندما دخلَتْ، أول مرة· الشمس تسيطر على الفضاء مرخية سُدولها· والحر المهيمن يمنع الحركة، كما يمنع السكون· وفجأة، ولجَتْ المكان! أقصد تلك الغرفة المعزولة عن الطريق· غرفة صغيرة محصورة في فناء من التراب والقش، استأجرتها من أم أحمد التي وَهبتني إياها دون أن ترفع إلى وجهي عيناً·
- عشر ليرات في الشهر·
قالت، وهي تحاور التراب· لكني بعد جدال عقيم حصلت عليها بثماني ونصف· وهو ما ظل يؤرق روحي، وربما روحها، أيضاً، أمداً طويلاً·جئتُ إلى هنا من أقصى الشمال الشرقي في سوريا· وأحسب أن الدنيا لا عذر لها إنْ لمْ تمتعني بالبدائع· كنت أَتهيّأ للموت في كل لحظة، والسبب الأساسي في ذلك ، كما أدرك الآن، هو الكبت العسير الذي يصير مع الزمن نهراً من التشاؤم ومقت الذات· أن تجيئني امرأة، مساء، ولو بحجة طبية، لهو أمر يخيفني، وكأنه الموت· كيف أخفي ابتهالاتي عن زكي؟ كيف أَتجنب الفضيحة على قارعة الطريق؟
رأى زكي تململي وانحرافي، فقال لي بتواضع ماكر:
- أروح أَشوف المَيَْ، سيدي!
أي ماء يعني؟ كيف لي بسبر اغوار نفسه؟ ولِمَ عليّ أن أفعل، في ذلك المساء المنفتح على الأهاويل؟ أَحسست أني انتظرت طويلاً، قبل أن أَلج الغرفة الطينية المشبعة بالشمس· عليَّ أن أُقرر: الحياة أو الموت· لا شأن لي بما يقال حولي ويُحاك·
وصلتُ إلى الجبهة منذ أسابيع معدودة، فقط، وصرت أحسني من التراب· من أهله، بالأحرى· وجوه الناس المليئة بالحموضة والأقاويل تشق النفوس الغريبة (مثل نفسي) إلى شقين، ناثرة خَفاياها على الملأ، بلا رحمة· كنت متعجلاً للوصول إلى جُسوم الذوات الأخرى التي تبدو لي محطمة الأَسانيد· ولكي أعبر، يكفيني أن أمد يدي وأمشي· الناس، هنا، زروع! زروع بهجتها الرَيّ، ومتعتها الأفانين: أفانين اللحظ والكلام· لماذا أَتمهل إذن؟وكيف أصل ، وقد تأخرت كثيرا عن المسير؟
- هَيّء العشاء سأحضر على الفور·
قلت لزكي دون أن أنظر إلى جهة محددة· وقبل أن أسمع جوابه الذي أعرفه، أدرت ظهري خارجاً من الخيمة اللاصقة بالأرض·
- حاضر، سيدي!
سمعته يقول وأنا أَغوص في بداية الليل·
- مساء الخير!
قلتُ بهدوء وكأني أسلِّم على ذئب أليف·ارتجفتْ شفتاها وهي ترجُّ السلام باضطراب:
- مساء الخير·
قالتْ بخفر، وكأنها لم تسمع مما قلته شيئاً· أين كانت الأمور تتفتّح، آنذاك؟ وبأية ُسقْيا سنسقيها؟
اضطربت حساباتي وأنا أَتهيّأ للجلوس وراء طاولتي المصنوعة من الخشب والحديد· طاولة باردة معدومة الأركان، صغيرة الحجم، وكأنها صنعت قصداً لكيلا تصلح لأي عمل! كانت قد خصصت، في الأصل، للعيادة العسكرية· لكي استقبل عليها المرضى من العَساكرالذين يجيئون للمُحاججة الصباحية إلا أن زكي هو الذي أوحى لي بنقلها إلى العيادة المدنية حيث سأستقبل كل شيء·
جلستُ برزانة خلف أَضلاف الخشب والحديد· انتظرتُ أن استرد أنفاسي التي غابت مع مشية المساء المعتادة· كنت أَخوض في الزروع الخُضْر المحيطة بالقرية الصغيرة كالأساور الَمفتولة حول عضد رَطيب· أَخوض فيها، وأنا أَخوض في نفسي· أحكي لها، عالياً، عن كل شيء· عن أحاسيسي، عن المقت الذي أكنّه لها، عن الخيبة الإنسانية التي لا تقاوم، عن الناس الذين أَتصدّى لهم كل يوم، وعن أشياء أخرى كثيرة، سيأتي ذكرها، فيما بعد·
قرية إنْخِلْ قريبة القصد من الجبهة· تتربع فوق سهل بركاني آسر· فيها تنبت الحبوب والبقول والأعداس والأجناس الأخرى من المزروعات· وقريباً منها تتعالى مرتفعات الجولان الجميلة·
حولها تحلّق النازحون، بعد الهزيمة·وكثرت اليد العاملة، وَرَخُص الكائن: صارت أجرة عمله الشهري تعادل أجر أسبوع من العمل، وأحياناً أجر يوم واحد فقط! وأرخص العمّال: البنات· بنات الحِمَّةْ ذوات العيون الحور، والأجساد الَمملوءة بالرحيق·