في روايته السابعة "مديح الهرب"، يعود الكاتب السوري خليل النعيمي ليمنح من المادة الخام الاثيرة لديه: سيرته الذاتية التي طالعتنا مراحل منها في "الشيء" و"الخلعاء" و"تفريغ الكائن" و"القطيعة".
You are here
قراءة كتاب مديح الهرب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 9
صار يبكي وكأنها القيامة· يرتجف بالقرب مني مثل طير اُنتِشِلَ، للتو، من بئر عميق· كيف أَشرح له الأمر؟ وماذا لدي لأقوله، أصلاً؟
كنت أحس بصَلافَة الكذب وهو يتقاطع مع العبث، وكأنهما يتلاقيان، في تلك اللحظة، من أجل إجهاض مشروع حياتي! كنت عاجزاً عن ضبطهما· كانا يتحكمان بي، مثلما يفعل العقيد ريمون تماماً· كل شيء يسيل من بين أصابعي، دون أن تحسن نفسي الإستفادة منه· كنت أحسبني متأهباً للوصول إلى أبعد الأمكنة والإمكانيات، ولم أكن ، في الحقيقة، سوى رجل من قش! عليَّ أن أعيد ارتباطي بنفسي، إذن· وفجأة صرختُ:
- سلو! (كأنه ملجأي الأخير) هات السيارة وخذها على الاسعاف·
- إلى دَرْعا، سيدي؟
- إلى الصَنَمَيْنْ يا أبله! إلى أقرب مركز طبي·
لأول مرة، أراه يهروِل، وهو يتمتِمُ: ميتة، وآخذها على الإسعاف! وكأنه اقتنع، فجأة، بصواب رأيي، صار يهزُّ رأسه راكضاً متلفتاً في كل صوب·
قبل أن تموت، رفعَتْ عينيها إلى وجهي وهي تُتمتِم لائمة:
- جيت مرتين وما لقيتك! وين كنت؟
كانت تعرف أنها ستموت، إذن؟أنا الوَحيد الغارق في الغفلة والجهل· وهو ما أَكَّدَتْه قائلة بحَسافة:
- حسبتك طبيب زين! حسبتك أحسن طبيب!
وانغلق الحلق على اللسان· صارت شفاهها مثل حطب البُطْم العَتيق· وحدها، نظرتها ظلتْ خضراء وناعمة· لكأنها أرادت أن تسامحني قبل أن يقهرها الموت·
الموت في الجبهة بلا إثم· وهو، أيضاً، لا اسم له· الناس هنا كَالأنعام، أو أخفّ بَهَظاً· نازحون من القرى المحتلة والتخوم· من القنيطرة، من تل الفرس ومن أنحاء الجولان الأخرى المزروعة بالأحجار· لكن الموت على هذه الشاكلة، يُذكِّر بأشياء كثيرة· يذكّرني بميتات أخرى مرت بالقرب مني·
في تلك الحظة، صرت لا أطمح إلا إلى الخلاص منها: امرأة عرفتها ساعة موتها! كان يمكنني أن أسعفها، أن أضع في يدها مَصْلاً وحليباً، لو كانت السرية الطبية التي أرأسها، تمتلك شيئاً منهما· لكن العقيد الشديد القَتَر، المسئول عن حياة الجنود، والذي لا يريد أن يفعل شيئاً بلا فائدة، فَرّغ كل شيء من محتواه· جعل امكانياتي الطبية تتلخص بالأسبرين، والمسكنات، وحبوب الوجع والإسهال· كنت أَعزل وخائباً مثل كلب نُزِع لسانه لئلا ينبح غريباً! وظلَّ يردد عَلَيَّ أوامره، كلما التقى بي: كل العساكر يجب أن تتداوى هنا، على الأرض، عندك!
يحدد مشيراً إلى التراب الذي يمشي فوقه باحتقار، قبل أن يُتابع: وَمنْ يقاوم الشفاء في هذا المكان(مؤكِّداً سوء النية العَفوي لدى الجنود) لن يشفى في أي مكان آخر· ولكي أفهم صراحة (وكأنه يحذرني من التواطؤ معهم) يضيف بتحدّ، وهو يمصُّ سيكاره الهولندي النتن: ولن أسمح لأي عسكري بالسَفَر إلى الشام للعلاج· وبعد أن يُراوِغ نظرتي الحاقدة، يؤكِّد، دون أدنى تأنيب ضمير: أنت أحسن أطباء الجيش!
أعرف أنه يكذب·
دخلت الطب صدفة، ولم أفلح به كثيراً· كنت أميل إلى دراسات أخرى لم أتمكن من متابعتها لأسباب نسيتها، الآن· وعندما جِئْتُ إلى الجيش كانت الدوافع كثيرة لا مجال لتعدادها، اليوم· ولأني لم أكن معنيّاً بما يدور في رأس العقيد، أظل ساكتاً، وهو يتكلّم، استمع إلى فقاعات نفسي التي لا تكف عن التكوّن والإضمحلال·
نظرته الزائغة تسلّيني! أرى في عينيه غمام التعنّت الذي لا يمكن التخلص منه: تَعَنُّت المتحكِّم برقاب الناس! كان جهله مخيفاً: جهل بلا حنان! أحياناً، أرى اضطرابه العميق يتجاوز شَفتيه إلى الفضاء المحيط بنا، معلناً عن نفسه بطمأنينة· وعندما يتمادى في أفق كلماته التي بلا معنى، كما يحدث، غالباً، في مساءات الجبهة الشديدة الهدوء، تملؤه الراحة والبلادة، معاً، وكأنه يتذوّق متعة التَبوُّل بعد حَصْر طويل!
ذلك، كله، جعلني أَتمزّق لموت المرأة المجهولة· أَتمزّق من نظرة الحنان التي غمرتْني بها وهي تموت· ومع أني لم أفعل لها شيئاً، إلا أن شعور الإعتراف بالجميل كان يفيض منها! أيجعل الموتُ الكائنَ أَريباً إلى هذا الحد؟ لا! لقد رأيت آخرين يموتون متجهمين كالثيران، مع أني أتيت كل ما أستطيع لإنقاذ حياتهم البائسة·
لا بد أن يكون العقيد من هذا الصنف· وعندما سَيُجرح في المعركة المقبلة سترى كيف سيصرخ مثل فَطيم عزلوه عن أمه· أَكاد أحصي عدد خلايا الجُبْن الكامنة في معثكلته! العقيد المتعَسِّف الذي يُشَقْشِقُ، اليوم، كالجمل الهائج في برية حوران!