في روايته السابعة "مديح الهرب"، يعود الكاتب السوري خليل النعيمي ليمنح من المادة الخام الاثيرة لديه: سيرته الذاتية التي طالعتنا مراحل منها في "الشيء" و"الخلعاء" و"تفريغ الكائن" و"القطيعة".
You are here
قراءة كتاب مديح الهرب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 6
ونَطَّتْ هاجِرْ دَاحسة نفسها بي، وكأنها تريد أن تدخلني لتهرب من عينيه:
- يا خيّي، الرِجّال يريد راسي!
ذلك النهار، سندور، وندور، وسنعرف أن المدينة بلا ضيوف· وأن كل شيء مخطط بدقة· فلا يمكن أن ننام إلا في مكان ولا أن نأكل إلا من طعام كنت حائراً· وهاجر أكثر مني حيرة: إما أن نعودبخفي حنين، أو أن نبيع شعرها الأسود الغزير· نبيعه لكي أَستطيع أن أبدأ، أن أبدأ، فقط، مرحلة التدجين!
كانت هاجِرْ تبكي وهو يجزُّ شعرها كما تُجَزُّ النِعَاج· وقبَّلَتْني وهي تَلُفُّ رأسها الحليق، قائلة: يا خيّي، خوذْ الفلوس، وادرُسْ، وآني أرَوِّح على أهلي يحْرَمْ علَيَّ النوم هين!
- وصلنا، سيدي!
قال حسن بهدوء قبل أن يُطفيء المحرك بعد إن اجتاز بوابة قيادة الفِرقة وبدأْتُ استعيد نفسي من ذكرياتها المَشئومة قبل أن أَقع بين مخلبي عَقيدي اللئيم
أعرف أن الدخول عنده ليس كما الخروج· فللعقيد منهجه في الحركة وفي الحديث· حركة بلا قاعدة، وحديث بلا مضمون· وهو لذلك يطول ويطول· لكأن العَقيد يحاول أن يعوِّض مالايُعَوَّض من حياته بالكلام·
يَصول ويجول وهو يَتأنّث ويتأنَّق· ومن وقت لآخر ينادي على حاجبه المسكين:تعال يا ابني! مادّاً قَدميه، الواحدة بعد الأخرى، ليمسح له الجندي حَذاءه· وأكثر من مرة يجعله يعيد المسح بخرقة جديدة· لكأنه يريد أن ينظِّف نفسه عبر تنظيف بوطه اللامع كالحرير·
العقيد لا يمشي· يمتطي اللاندروفر المُموَّه بإتقان إلى أن يصل إلى المكان وعندما يصل إلى حيث يريد، يصير يأْمر سائقه بعنجهية:
- تقدّم· تقدَّم·
حتى لتظنّه يريد أن يُدخِل الجيب في سمّ البرّاكات التي يزورها تحاشياً للسير خطوة واحدة فوق التراب!
هو يكره السير على الأتربة والقُشوش· ولكيلا يتعثّر بالأحجار السود المغروزة في القاع، يوقف اللاندروفر الكاسدة الألوان على باب الخيمة الصغيرة المغروسة في الأرض، وبأعلى صوته الأبحّ، قليلاً ، ينادي: وين الدكتور؟
كان زكي شديد الحساسية لصوته الذي ينتشله حتى من أعماق النوم، فيجيئني راكضاً، مَلهوفاً، وكأن الكارثة حلَّتْ: العقيد، سيدي· العقيد!
وصلتُ إلى الجبهة منذ أشهر· وذلك يكفي لإدراك بذاءة المجد الذي يحيط بي· مَجْد يعلن عن حقارته، وعن ضَحالته، منذ اللمحة الأولى! صرت أحب الأتربة والأحجار، وأبتعد عن أَزياف البشر الذين يتكاثرون كالنمل· دمع هاجِرْ، وشَعرها الأسود الجميل الذي جُزَّ بوحشية أمام عينيّ ، هما اللذان سيحمياني من السقوط في هاوية الرضاء عن الذات والانغماس في تفاهتها!
ثمة أمر جليل ينقص كل شيء حولي· في بداية الأمر حسبتُ أن النقص في نفسي· ولأنه فيها فعلاً، فقد كان فيمن حولها، وفيما يحيط بها كالسوار، أيضاً! كانت العساكر تتكاثر، كذلك· وفي كل يوم أَتفرَّج على أفواج جديدة من الشر، دون أن اغدو صديقاً لأحد· لكأن الناس تحتمي بثيابها، عجباً! وأنا أحب معرفة الناس ولقاءهم· وحده، المشي وحيداً في الحقول مساء، يعيدني إلى حظيرة البشر· ولكن أي بشر هم هؤلاء؟
دخلتُ على العقيد، متعجّلاً·
- احترامي سيدي!
قلت بتبجيل باذخ· لم يسمع مما قلته شيئاً· كان رأسه مغروساً بين أوراق كثيرة متناثرة، وأذنه ملتصقة بالهاتف الميداني· وكأنه نسي لماذا دعاني، استبدت به الحيرة، وهو يراني في حضرته· ولا بد أنه تذكّر الأمر، أخيراً، ولم يكن ذا أهمية، كما أحسب، إذْ قال، دون أن يرفع نظره إليَّ:
- تعا، بكْرَةْ، دكتور·