You are here

قراءة كتاب مديح الهرب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مديح الهرب

مديح الهرب

في روايته السابعة "مديح الهرب"، يعود الكاتب السوري خليل النعيمي ليمنح من المادة الخام الاثيرة لديه: سيرته الذاتية التي طالعتنا مراحل منها في "الشيء" و"الخلعاء" و"تفريغ الكائن" و"القطيعة".

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 3
ظلتْ تجلس بهدوء· لم تغير من وضعها شيئاً· عيونها ملتصقة بي· وكنت أُحاول الانفلات من نفسي المربوطة بحبال من جير· لحظات مرت قبل أن أسألها:
 
- خير إن شاء الله؟
 
- بطني!
 
قالت بحياء آسر· لكأنها تستحي من أن يكون لها بطن!
 
- بطنك؟
 
كررت السؤال وأنا أَتحرك في مقعدي· أريد أن أفهم الأمر قبل أن أَخوض في وحل المغامرة التي قد تكون مرعبة· بدا عليها أنها لم تفهم السؤال، التساؤل بالأحرى· هي جاءت من أجل العلاج، وأنا أريد أن أَدفعها إلى رقعة الموت! مَنْ منا بحاجة إلى شرح؟ كررت السؤال:
 
- أقصد أي نحو منها؟ وكيف تشتكين؟
 
قامت واقفة· وقرّبتْ نفسها مني· صارت بطنها في وجهي· كادت أن ترفع الثوب الأسود الطَلَس، لولا أني قلتُ لها:
 
- تفضلي· مشيراً إلى مكان الفحص·
 
غرفة أم أحمد التي صارت عيادة طبية، صغيرة المساحة· قَسِّمها زكي إلى قسمين: قسم الجلوس، وقسم الفلوس، كما يقول باسماً بحياء· يفصل القسمين عن بعضهما حاجز شفاف من القماش الذي علِّق بخيط من القِنَّب المتين· قماش كان في البدء أبيض، ومع الوقت صار أشهب مُرْبَدّاً· كان شفافاً، وغدا الآن كتيماً من تراكمات العَجاج، ومن خراء الذباب، عليه·
 
مشتْ بأُبهة نحو المكان الذي سَتسلقي على ظهرها فيه· مشت خطوات وكأنها تمشي في فَيافي وقفار· كدت أحس بالنهْكة فيها، لكنها قعدت، أخيراً!
 
- تسطًّحي، من فضلك!
 
أمَرْتُها متواطئاً مع رغبة خفية لدي· رغبة بدأت تشق عنان جسدي الَملْجوم· ورأيتها تنظرني بعيون مَملوءة بالبرق! وبهدوء وثقة ألقَتْ نفسها على الطرحة القديمة الممدودة فوق طاولة التنك والحديد· طاولة الفحص الطبي في إنخل· وَأحسستها تتألم من قساوتها وقد فُرِشتْ على العظم· فوقها تمددت مستاءة، وكأنها تريد أن تدخل تابوتها الأخير·
 
- الوجع فين؟
 
سألتها من جديد، وكأني بحاجة إلى سؤال من نوع هذا لأتوصل إلى مأربي الطبي!
 
- الوجع هينْ!
 
قالت مغمضة العينين، دون أن تنظر الموضع الذي وضعَتْ يدي التي أمسكَتْ بها عليه·
 
كان يكفي أن ألمس جسدها بيدي لأحس رقاقة الهيكل، وهَشاشته· اللعنة! ماذا كانت تلك الثياب العنجهية تخفي؟ وبأي ثمن كانت المرأة تريد أن تموت؟ كدت أسألها، إلا أني أحجمت في الهمزة الأخيرة عن الكلام·
 
اكتشف، فجأة، قصور الكلام وبغيته· الكلام آفات· والآفات لها أسبابها ومزاياها· ولا زلتُ أَتوخّى الانشقاق·أية عجمة تفضح أسباب ذاتي التي ابْتَلَتْ بحنين لا يَنمحي؟ وكيف أُواسي هذه المرأة الملقية كالجثة قدّامي؟ وأصير أُكرر، وأنا ألمسها عبثاً: الوجع هين؟ الوجعْ هينْ؟
 
وكأني بلمساتي العشوائية كنتُ أثير فيها وَجَعاً فعلاً، صارت تتأوّه مشتكية من مَسّ خفيّ· مَسّ ألَمٍ أقوى من أَسانيدها وأكبر! ألَم مسائي لا يحتمل· أي ضير في أن يكون المرء مختالاً؟ ولكن مَنْ هو القادر على سحب حبة ألم من جسد لا يريد أن يتخلّى، بأي ثمن، عنها؟ ما همّ، فلأحاول·
 
تخرجت من كلية الطب قبل سنوات ثلاث، أو أقل قليلاً· ولا زلت احسبني كالغجري الذي لا يحسن إلاّ اللعب بالتراب· أُدواي المرضى باحساسي عنهم قبل أن أُشَخِّص فيهم الأمراض·
 
تعلمنا في الكلية العَتيدة بعض الخصائص والعلامات، وكان ذلك يكفي لإرسالنا إلى حيث يَشاؤون· ولم يكن ذلك ليخيفني·ولكن، لماذا؟ لماذا توقفت، فجأة، عن فحصها؟ولِمَ صرتُ أَتأمّلها بحنان؟ أمي! عجباً لإحساس يخترق العالم كالريح· قبل قليل كنت أريد أن أقرصها، وَهأنذا الآن أريد أن أحطّها بين كفيَّ لئلاّ تنكسر من البؤس·
 
- خلصتَ؟ سألتني مُحتارة·
 
وأية حيرة أَسوأ من صمت بلا إداء؟صمت الجاهل الذي يكتشف، فجأة، مدى تخاذله (إضافة إلى جهله) في الوصول إلى حيث يريد· وفي لحظة كهذه، فقط، يمكن أن ندرك معنى الإرادة المؤذية إرادة الإصرار على الخطأ· كيف أَشرح لها الأمر؟ كيف أَشرحه لنفسي وقد انبثق، للتوّ، فيها؟
 
ممددة كالجثة قدّامي لم تكن، في الحقيقة، بحاجة إلى شرح· كانت بحاجة إلى لمسة تشفيها· لكن اللمسة الطبية لا تعني شيئاً إنْ لمْ تكن محملة ببصيرة نافذة تجلو خَفايا النفوس ومشتقاتها· وبأي عين يمكن لي أن أراها، إنْ لمْ تكن عين الكبت الملتوية في رأسي·
 
خلال سنوات الدراسة، التي صرتُ أسميها سنوات التدجين كنت لا زلت قريب العهد بالبادية التي كبرتُ فيها· وكنت لذلك، ربما، مَملوءاً بالدهشة في البداية· دهشة لن تستمر طويلاً إزاء هجوم المدينة المنظَّم، ولن تقاوم أكثر من سنوات· وهو ما صَيَّرني كالخروف المعد للتَقْصيب: أصيب مرة، وعشراً لا أصيب! أخرجني من وقفتي الباردة فوقها، صوتها القلق متسائلاً:
 
- لقيته؟
 
- نعم؟ مددتُ الكلام بحرج ·
 
- الوجع باقي؟
 
سألتني ملتاعة، وكأنها ستخيب كثيراً إن لم أجد وجعاً فيها·
 
ماذا أفعل غير أن أَهزّ رأسي صامتاً متجنباً كل كلام لايفيد! نظرتْني بعيون سود كثيرة· لكأن الناس الذين أعرفهم، كلهم، يعاونونها في النظر إليَّ بمثل هذه الوجاعة! تنفسها يتقطّع مثل ماء الأجران الحجرية في الأَعالي· أجران جبل عبد العزيزالطالع من الحَماد· كنا نتسلق أشجار البُطْم اليانعة في سفوحه· منها نحوش الحُبيبات الصُفْر المخضرّة المروية بالندى· وبالفؤوس الَمسْنونة نأخذ منه حطب الشتاء· كانت عَرْنَة تملأ ظهرها حطباً، وبحضنها تشيل الكُرُمّ والكَعّوب· وفوق رأسها يتوازن جُود الماء المعبّأ من الأجران· عَرْنة التي ماتت مسلولة مثل قصبة هَوَتْ في الماء· لا زلتُ أسمع نَحيحها الليلي في برد الشتاء· تداوي نفسها بالماء والرُقع، ولم يكن يهمها لاوجع، ولا شفاء!
 
- باقي· الوجع باقي؟
 
قلتُ مكرراَ للتأكيد، مع أني أعرف عبث تأكيد أمر هو في حكم الحَتْم·
 
- الحمد لله! قالتْ بارتياح، وكأن وجود العلة ضمان لشفائها!

Pages