المجموعة القصصية "كورون.. أو الماء باتجاهين"؛ يتوزعون مع بداية الليل ويختبئون في الجيوب الخلفية للحارة، حيث المزارع المطلة على المنازل بنخيلها الجاف المسلوخ.
You are here
قراءة كتاب كورون .. أو الماء باتجاهين
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 4
تلويحة الرّصيف
عند منتصف الليل أو قبله بقليل
بعد أن هدأت الشوارع من ضجيج المارة ودوران عجلات السيارات ومباغتات رجال الشرطة، وبعد أن طوى أصحاب المحلات دكاكينهم المَفروشة طوال النهار، وأوصِدت الأبواب والنوافذ وفتحات المنازل، وصحت الأسرة في مشاكساتها الليلية، في ذلك الوقت خرج الرجل من منزله بعد نهار طويلٍ مليء بالسجائر والركض والأرصفة والاشتباكات، خرج الرجل من منزله في الشقة رقم (8) بالدور الخامس للبناية التي خلف الشارع الرئيسي تماما، والمقابلة للمجمع التجاري الأكثر شهرة في المدينة···
في ذلك الوقت يبدو كل شيء منظما وهادئا عدا بعض الأصوات الليلية العابرة، التي كانت تتكاثر ببطء أو تختفي بسرعة في الحانات والأزقة الضيقةِ ومواقف السيارات، في هذه المدينة المطفأة كل يمارس وحشته وأحاديثه وقهقهاته كما يكره أو كما يكره·
كان الرجل قد تجاوز الشارع الفاصل بين منزله ومحل البقالة، الملاصق لمواقف السيارات الخاصة بالبناية، وكان الشارع مطفأ بأكمله، وكان كما لو أنّ ماسًا ما قد عطّلَ الإنارة، فالشّوارعُ والمَساراتُ الجانبيةُ على امتدَادِها بَدت مُظلمةً، وكان الرّجلُ يَمشي على الرّصيفِ، وكان أن قَفز إلى الضِّفَّةِ الأُخرى من الشّارعِ، ولم يَمكُث الرّجلُ في دَورانهِ كثيرًا حولَ البِنايةِ، فأدارَ ظهرهُ للمَدخلِ الرّئيسي وَمسحَ المَدى بِنظرةٍ سَريعةٍ تجَاوزت سُمكَ الظّلمةِ الى الشّارع العام الّذي يضُحُّ بالإنارة·ومَا كان من أمرِ الرّجُلِ أنَّهُ كان يَبرحُِ مَنزِلهُ في التّوقيتِ نفسه، يَمشي ملوحًا بيديهِ حَاملاً حَقيبةً مُعلقةً على ظَهرهِ مُنتصفَ النّهارِ، حَيثُ تَفرشُ الشّمسُ أشِعّتها على الأشجَارِ ورؤوسِ المَارّة وأسطحِ البِناياتِ، وعَلى صَلعةِ الرّّّجلِ المَلساءَ الّتي تَعكسُ خَرائطَ المَدينةِ بكل انحِناءاتِها وخَباياهَا، يَمشي الرّجلُ ذَارعًا الأرصِفةَ والمَحلاتِ والمَطاعمَ وَمواقفَ البَاصاتِ، وسَياراتِ الأجرَةِ، لا يَتكلّمُ أبدًا إلا عن الوَقتِ أو السّاعةِ أو البَوصلةِ، وهوَ في كُلِّ هذا لا يَتحدثُ إلا مع نَفسهِ، وإذا تَصادفَ وكَلّمهُ أحدٌ يَرفعُ ثَوبهُ الى نِصفِ سَاقَيهِ، ويَجري تَاركًا غُبارًا من الأسئِلةِ وعُيونًا تَركضُ وَراءَهُ، وضَحكاتٍ تَتداخلُ مع ضَرباتِ نِعالهِ على اسمَنتِ الشّارعِ، حيثُ ينَحني الرّجلُ أحيانًا فاتحًا ذِراعيهِ كالطّائرِ، ثم يَركضُ على خَطّ التّشجيرِ بِمحاذاةِ الشّارع ِمُلوحًا للسّياراتِ والمَارّةِ بِحديدةٍ طَويلةٍ تُشبهُ حَديدةَ الحَفرِ، يَقضي الرّجلُ نهَارهُ مُشاكسًا المَارةَ بِحديدتهِ ولا يَعودُ الى مَنزلهِ إلا عند الغُروبِ، حيث يَلبدُ على مَدخلِ البِنايةِ وبَعدها الى مَنزلهِ في الدّور الخَامسِ·· كانت هذه المَرّةَ الأولَى الّتي يَخرجُ فيها الرّجلُ في مُنتصفِ اللّيلِ··
خَرجَ الرّجلُ لَيلاً···