يرى الباحث د.
قراءة كتاب البنية الدرامية في شعر محمود درويش
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 5
وقد انطلق (أرسطو) - في حديثه عن الدراما- من خلال فكرته عن "المحاكاة" فحينما عرف التراجيديا وصفها بأنها: " محاكاة لفعل جاد، تام في ذاته، له طول معين، في لغة ممتعة؛ لأنها مشفوعة بكل نوع من أنواع التزين الفني، كل نوع منها يمكن أن يرد على انفراد في أجزاء المسرحية، وتتم هذه المحاكاة في شكل درامي، لا في شكل سردي، وبأحداث تثير الشفقة، والخوف، وبذلك يحدث التطهير".( )
ولعل الذهاب إلى المعنى اللغوي لكلمة تراجيديا سيؤكد ما ذهب إليه الباحثون من علاقة النشأة بالتصور الديني؛ فمعنى كلمة تراجيديا: أغنية الماعز، التي تعيد لأذهاننا "النشيد الذي كانت تردده جماعة الراقصين في الكورس، عند تقديم أحد القرابين على مذبح (ديونيسوس) أو (باموس) اله الخمر، أو الكرمة، أو البراعم، أو الزرع. "( )
بل إن أرسطو ربط بين نشأة التراجيديا والاحتفالات الدينية من خلال" الموازنة بين صورة المأساة ومضمونها الروحي، والشعائر الدينية التي تمثل فكرة محاكاة الفعل التي جاءت في كتابه" فن الشعر"؛ فالشعائر تحاكي الفعل من ناحية، والمأساة تحاكيه من ناحية أخرى. "( )
أما المحاكاة التي قصدها أرسطو، فهي ليست محاكاة العقل السلبي، أو الفعل الجامد، بل هي الإبداع الفني ذاته؛ فأرسطو يرى: "أن الفن يكمل ما لم تكمله الطبيعة، أو أنه ينجح من حيث يفشل الواقع".( )
أي أن المحاكاة ليست محاكاة أشخاص، بل محاكاة أفعال، أو محاكاة للحياة، للسعادة والشقاء، والحدث- هنا- ممكن أو مستحيل.
أما الكوميديا، وهي الشق الثاني الذي تناوله أرسطو-في سياق حديثه عن الدراما- فإنك واجدها- هي أيضاً- قد تطورت من الطقوس الدينية؛ ذلك أنها "تطورت من الاحتفالات (الديونيسية) التي كانت تتضمن غناء، وارتداء للأقنعة، وتشترك فيها جميع الطبقات والفئات"( )
وهذا يعني أن نشأة الكوميديا شبيهة بالنشأة التراجيدية حيث أنهما تأثرتا بالبدايات نفسها، وكلمة (كوميديا) تجمع بين كلمتي (كويوس) بمعنى احتفال أو موكب ريفي صاخب ومعربد، و"أودي" بمعنى أغنية من الأغاني والرقصات التي كانت تؤدى في أنحاء الريف الإغريقي إبان الحصاد، ولا سيما قطاف العنب المرتبط بعبادة (ديونيوس) إله الخمر، أي أنها نشأت من الاحتفالات الدينية الشعبية( )
أما المزج بين المتناقضات فهو أهم ما يميز الكوميديا اليونانية القديمة، التي بلغ (ارستوفانس) الذروة في تصويرها بعبقريته الفذة، حينما قدم لنا صورة واقعية عن المجتمع اللاتيني المتناقض أطلق عليه "الصورة الأرستوفانية للحياة اللاتينية"( )
وهنا، يمكن القول إن تناول موضوعي التراجيديا والكوميديا عند أرسطو ينبع من فكرة المحاكاة؛ ذلك أن الإنسان إما أن يكون في صفاته ومميزاته أعلى مما عليه المعدل العام من أفراد الجنس البشري؛ فيكون في منطقة المثال، ويصبح موضوعا للتراجيديا، وإما أن يكون في صفاته ومميزاته على نفس مستوى المعدل العام؛ فيكون أقرب إلى الواقعية، وإما أن يكون دون المستوى العام؛ فيصبح موضوعا للكوميديا.( )
أما طريق المحاكاة الشعرية- عند أرسطو- فهي متنوعة: "فقد يستخدم فيها السرد في جزء، ثم يروي القول على لسانها-كما كان يفعل (هميروس) -وأحيانا يتكلم بلسانه هو دون إحداث مثل هذا التغيير، وإما أن يعرض الشخصيات وهي تؤدي كل أفعالها أداء دراميا".( )
وعند تجاوز إشكالات النشأة والاصطلاح حول مادة الدراما، والذهاب إلى تاريخها، وتطورها، والشروع في تناول أعلامها عبر تاريخها الطويل، تبرز شخصية (ثيسبيس 527 ق. م) أول درامي يعود إليه الفضل في اكتشاف التراجيديا الحقيقية، فهو الذي حول أغنية الجوقة (الديثرامب) إلى مسرحية تمثيلية، وأوجد الممثل لأول مرة في مقابل المغني أو الراقص. والحديث عن (ثيسبيس) له أهميته، حينما ينتقل القارئ إلى مصطلح الدراما تاريخيا، ؛" فالدراما- تاريخيا- بدأت كفن أدائي، فلم تكن هناك نصوص مكتوبة، بمعنى الكلمة، بل أداء شفوي يقوم به متخصصون، بل إن الأداء، أي الممارسة، هو الذي ساهم عبر التاريخ في تطوير الشكل الدرامي، وليس العكس".( )
أما (اسخيليوس)، فقد نقل البنية الدرامية نقلة نوعية؛" فكانت الدراما- عنده- تتضمن مبادئ وأفكارا متناقضة، وكل شخصية من شخصياته تمثل نظاما أخلاقيا، أو فكريا معينا، يصطدم مع الميول والمبادئ المتمثلة في الشخصيات الأخرى، وهذا يؤدي إلى الحدث الدرامي، وباستخدامه للممثل الثاني، عقد عناصر الصراع، مما خلق العقدة أو الحبكة الدرامية، وقدم المتصارعين دراميا، أي وجها لوجه. وهذا ما خلع على مسرحياته الدفء والحيوية، وكان لهذه الخطوة تأثير أدى إلى تحول جذري في عملية الكتابة الدرامية ذاتها، التي تقوم على أساس الأغاني الجماعية للجوقة، أو مقطوعات وصفية سردية، يتوجه بها الممثل للجوقة، أو حتى حوار بين الجوقة والممثل"( )
وجسد (سوفوكليس) المرحلة الثالثة من تطور الدراما الإغريقية، ولعل أهم تجديد أدخله على الشكل الدرامي للتراجيديا، "هو إدخال الممثل الثالث".( )
أما (يوربيدس480 ق. م) فإنه أستاذ الواقعية - إن جاز التعبير- "فمسرحياته تنحى إلى الواقعية بوضوح، وشخصياته في مجموعها ترتفع عن مستوى الإنسان العادي، و"تسمو قليلا لكنها تخطئ وتصيب".( )
أما فيما يخص الكوميديا؛ فقد عد (ارستو فانس) أشهر الكوميديين الأثينيين، فهو منفرد، يمثل الكوميديا القديمة، والوسط، بموضوعات تطرقت إلى قضايا إنسانية عامة، ومشاكل سياسية وفكرية جوهرية، كالحرب، والسلم والمرأة، والرجل والثروة، والفقر، والعدالة، والمساواة"( ).
وإلى جانب (ارستو فانس) يأتي (ميناتادروس) الذي يمثل المرحلة الحديثة في تطور الدراما الإغريقية؛"فشخصياته لم تكن كائنات فردية، مميزة، لها أسماء معروفة لدى جمهور المتفرجين، كما هو الحال عند(ارستو فانس)، بل رسم ملامح شخصياته من وحي خياله، مستلهما سمات الأفراد المعاصرين له، فمثل أهل القاع - حسب تعبير (غوركي) - فكان مسرحه يقوم على تصوير الحياة الخاصة للأفراد، وما فيها من قضايا صغيرة، أو مسائل طفيفة تحدث في الحياة اليومية".( )