يرى الباحث د.
قراءة كتاب البنية الدرامية في شعر محمود درويش
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 9
الشعر: خصائصه وعلاقته بالفنون الأخرى
تتمثل خصائص الشعر في جملة من المعطيات، تبدأ باللغة الشعرية؛"فاللغة في الشعر لها شخصية كاملة، تتأثر وتؤثر، وهي تنقل الأثر من المبدع إلى المتلقي نقلا أمينا، وليست المسألة مجرد نقل أمين فحسب، ولكنه النقل الأمين عن المبدع، عندما يفكر أولا وقبل كل شيء باعتباره فردا، لذلك كانت لغة الشعر ممتلئة بالمحتوى الذي تنقله نقلا أمينا، وهي- بعد- لغة فردية، في مقابل اللغة العامة التي يستخدمها العلم، وهذه الفردية هي السبب في أن ألفاظ الشعر أكثر حيوية من التحديدات التي يضمها المعجم. والألفاظ الشعرية تعين على بعث الجو بأصواتها؛ فالعلاقة بين الأصوات في الشعر- كالموسيقا تماما-يمكن أن تثير متعة تذوق الانسجام الحي، سواء بالأجزاء المكررة، أو المنوعة، أو المتناسبة، والكلمة الشعرية، لذلك يجب أن تكون أحسن كلمة تتوافر فيها عناصر ثلاثة: المحتوى العقلي، والإيحاء عن طريق المخيلة، والصوت الخالص. ويجب أن يكون اتصالها بالكلمات الأخرى اتصالا إيقاعيا، بحيث يؤدي هذا التلوين الإيقاعي إلى الغاية المطلوبة"( )
فالشعر انحراف جمالي، وتحول مفاجئ تنتجه الكلمات تحت تأثير خاص، وأخص مقوماته التصوير والمجاز، وليس في مقدورنا أن نحدد هذه الخاصية، أكثر مما في مقدورنا أن نحدد حالة من الجمال، ومن خصائصه - أيضاً- اتكاؤه على العاطفة والتخيل؛ ولا يعني هذا انتفاء الفكر عنه، وإنما أعظم الشعراء" هم الذين يقدرون على إثارة العواطف المختلفة في نفوسنا بدرجة قوية، كالحماسة، والشفقة، والحب، والإعجاب والإجلال؛ وهي موهبة قل أن تتوافر لشاعر أو كاتب، وإن كان ذلك لا يحول دون عظمته أو شهرته، في باب واحد، أو بعض أبواب الأدب؛ كغزل عمر، ومرح البهاء زهير، وفلسفة المعري، وحكمة المتنبي. "( )
والعاطفة، مهما بلغت أهميتها وخطرها وأصالتها في هذا الفن، إلا أنها ليست العنصر الوحيد الذي يتألف منه النظم، فلا بد من صدق التجربة الشعرية، والصدق يمثل الحقيقة التي تقوي العاطفة وتسندها، أي أن الشعر محتاج إلى رؤية فكرية يعبر عنها صاحبها بدفق شعوري، وأما تلك الأفكار الغنية، فهي تعيد هيكلة الشكلي إلى واقعه الوظيفي، وهنا يقع الاختلاف بين الأدب والموسيقا، فالعواطف في الأدب ليست مجردة، وإنما تحملها الكلمات مع المعاني، من خلال هذه المزاوجة بين الشكل والمضمون، وان شئت بين العقل والقلب، فهي التي تجعل من الأدب شيئا رفيعا ساميا.
أما الخيال الشعري السابح في عالم الإبداع، فهو- أيضاً- مشروط بصدق فني، ولا يعني أنه ابتكاري( ) أن يكون مجافيا للحق، معارضا للفطرة؛ فالخيال الشعري تفسير للجمال، وتصوير له، وتعبير عن مغزاه الحقيقي. أي أنه" صورة واحدة نفسرها بما توحي إلينا من معان؛ كالزهرة التي تصبح كائنا حيا، أو فتاة مزهوة بجمالها تلبس الثياب الخضراء وتتزين بالجواهر الحمراء"( ).
ومما لا شك فيه أن العلاقة بين العاطفة والخيال وثيقة جدا؛ فالخيال هو الذي يشكلها ويبعث أثرها في النفوس، ويوقد جذوتها. وقوة الخيال مرتبطة ارتباطا طرديا بقوة العاطفة؛ فكلما كانت صادقة استوجب ذلك أن يجلب لها صورا رائعة وخيالا بديعا، فتتكامل الصورة.
ومن هنا؛ فإن الحديث عن الخيال يقود إلى الحديث عن الصورة الشعرية، وقد رأى الدكتور عبد القادر القط أن الصورة الشعرية هي: "الشكل الفني الذي تتخذه الألفاظ والعبارات بعد أن ينظِّمها الشاعر في سياق بياني خاص، ليعبِّر عن جانب من جوانب التجربة الشعرية الكاملة في القصيدة، مستخدماً طاقات اللغة، وإمكانيتها في الدلالة، والتركيب، والإيقاع، والحقيقة، والمجاز، والترادف، والتضاد، والمقابلة، والتجانس وغيرها من وسائل التعبير الفني... والألفاظ والعبارات هما مادة الشاعر الأولى التي يصوغ منها ذلك الشكل الفني لـه، أو يرسم بها صوره الشعرية"( ).
ولما كانت الصورة الشعرية هي الرسم بالكلمات التي "تتشكل في إطار نظام من العلاقات اللغوية، ويعبر بها الشاعر عن المعاني العميقة في نفسه، ويفلسف بها موقفه من الواقع، ويخلق بها عالمه الجديد من خلال توظيفه لطاقات اللغة المجازية، وما تحمله من إمكانات دلالية وإيقاعية، ويقرب بها عناصر الأشياء المتباعدة، ليجمع بين الفكر والشعور في وحدة عاطفية في لحظة من الزمن تتجلى منها أحلام الشاعر وطموحاته؛ وتكشف عن سحر الشعر، وما يحمله من دهشة وجدة"( )
وهي"الوسيط الذي يستكشف الشاعر به تجربته ويتفهمها"( ). لذلك؛ فإننا بحاجة إلى دراسة الصورة الشعرية عند الشاعر؛ لكي نستطيع الوقوف على مذهبه الفني، وسبر أغوار جوهر تجربته الشعرية.
إن هذه الخصوصية المتشكلة من القيم الإيحائية، والإيقاع، والعاطفة، والتخيل، لا تنفي- أبدا- تداخل الفنون؛ فكما تداخل الشعر مع المسرح، في علاقة جدلية، تداخل مع الرواية أيضاً؛ ذلك أن علاقة الشعر بالراوية قديمة ومتأصلة؛ ترجع إلى ما قبل استقرار الرواية كجنس أدبي مستقل بقرون طويلة، حيث كانت "الرواية مجرد حكايات خيالية، ليس لها أسس فنية مستقرة، فقد استعارت القصيدة من الرواية - منذ هذه الفترة المبكرة جدا في تاريخها- عنصر القص أو الحكاية وهو جوهر الرواية أو القصة في ذلك الحين، ولكن صلة القصيدة بالرواية لم تقف عند هذا الحد، فبعد أن نضجت الرواية, وأصبحت جنسا من أهم الأجناس الأدبية، وتعددت اتجاهاتها وتياراتها، وتعددت تبعا لذلك تكنيكاتها الفنية، ابتدأت القصيدة تستعير من الرواية اخص تكنيكاتها وأحدثها".( )
ولعل أهم ما استعارته القصيدة الحديثة من الرواية تلك التكنيكات المتمثلة في الرؤية السردية والارتداد والمنولوج.
أما الارتداد فهو: "قطع التسلسل الزمني، والعودة من اللحظة الحاضرة إلى بعض الأحداث التي وقعت في الماضي. "( )
وقد استعار الشاعر الحديث هذا البناء، وطوعه لعمله الشعري، واستخدمه لأغراض شبيهة بتلك التي يستخدمه من أجلها كاتب الرواية، وقد يكون الارتداد في القصيدة من اللحظة النفسية الحاضرة إلى لحظة نفسية أخرى سابقة عليها في الزمن، وقد يكون من حدث إلى حدث آخر".( )