You are here

قراءة كتاب تاريخ العرب - من بداية الحروب الصليبية إلى نهاية الدولة العثمانية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تاريخ العرب - من بداية الحروب الصليبية إلى نهاية الدولة العثمانية

تاريخ العرب - من بداية الحروب الصليبية إلى نهاية الدولة العثمانية

يعد مصطلح الحروب الصليبية نتاج عدد من التطورات التاريخية، والمفارقات الغريبة المدهشة في التاريخ الأوروبي وفي التاريخ العربي على حد سواء.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

القسم الأول: الحروب الصليبية

الحروب الصليبية في المنظور التاريخي

تتمثل أولى مشكلات البحث في تاريخ «الحركة الصليبية» في المصطلح ومدلولاته المختلفة التي تؤدي بالضرورة إلى حال من الفوضى والارتباك، لاسيما إذا كان المصطلح ذاته يحمل تناقضا بين دلالته اللغوية، وحقيقته التاريخية. فالناظر في مجريات وقائع هذه الحروب يجد مزيجا من القسوة والوحشية من جهة والتدين العاطفي الذي يشويه التعصب من جهة أخرى، ويكتشف في ذلك كله تناقضا مع الصليب، رمز الفداء والتضحية بالنفس في سبيل الآخرين، إذ لم يكن الصليب أبدا رمزا للحرب والقتل والعدوان.
ومن المهم هنا أن نشير إلى أن الرجال الذين قاموا بالحملة الصليبية الأولى لم يستخدموا مصطلح «الحملة الصليبية» أو «الصليبيين» إذ لم يحدث سوى في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي أن ظهرت الكلمة اللاتينية (Crusesignati) ومعناها «الموسوم بالصليب» لكي تعبر عن الصليبين، لأنهم كانوا يخيطون صلبان القماش على ستراتهم. ولم يحدد حتى أوائل القرن الثالث عشر الميلادي إن كانت هناك كلمة لاتينية تعني «الحركة الصليبية».
وفي بداية الأمر كان من يشاركون في الحملة الصليبية يوصفون بأنهم حجاج، وغالبا ما استعملت عدة تعبيرات ومصطلحات أخرى مثل عبارة «رحلة الحج» التي كانت شائعة تماما في الفترة المبكرة من تاريخ الحركة الصليبية، كذلك استعملت كلمة «الحملة» و«الرحلة إلى الأرض المقدسة» و«الحرب المقدسة» وغيرها. وفي وسعنا أن نسوق عشرات الأمثلة المستقاة من كتابات المؤرخين اللاتين الذين عاصروا الحركة الصليبية، ولا سيما في أطوارها الأولى. بل إنه مما يلفت النظر حقا أن عناوين مؤلفاتهم جميعا خلت من ذكر كلمة «الصليبيين» أو «الحملة الصليبية» وإنما دارت حول «الحملة» و«حجاج بيت المقدس» و«الفرنج»... وما إلى ذلك.
ومن المهم أن نشير إلى أن الكلمة الإنجليزية (Crusade) والكلمة الألمانية (Kreuzzag) قد ابتكرت في القرن الثامن عشر فقط، وبعد أن كان البحث التاريخي في الحروب الصليبية قد مضى شوطا منذ بدأ توماس فوللر الانجليزي في القرن السابع عشر أول دراسة باللغة الانجليزية حول الحركـة الصليبية في كتـابه باللـغة الإنجليــزية القديمة واسمه (Histories of the Holy Ware) والملاحظ أنه أستخدم عبارة «الحرب المقدسة» أيضا.
وعلى الرغم من الفشل النهائي الذي منيت به الحركة الصليبية إلا أن المثال الصليبي تحول بمرور الوقت - تحت تأثير وسائل الأعلام التي عملت في خدمة الأهداف الاستعمارية الأوروبية - إلى مثال براق يوحي بالشجاعة والتضحية بالنفس في سبيل المثل الأعلى. واستقر في الوجدان الشعبي الأوروبي (والأمريكي لاحقا) أن «الحملة الصليبية» لا بد من أن تكون بالضرورة حملة خيرة، نبيلة القصد والهدف، منزهة الغرض مثل: رعاية المرضى، أو مساعدة المنكوبين، أو جمع التبرعات وما إلى ذلك، وربما يكون الموروث الشعبي المتداول حولها في «أغنيات الحروب الصليبية» التي راجت في ذلك العصر، واستمرت موجودة بعد ذلك تحكي قصة الحروب الصليبية شعرا وغناء للجماهير الأوروبية الجاهلة، باعتبار ذلك بديلا من كتب التاريخ التي سجلت قصة الحروب الصليبية، نقول: إن هذا الموروث الشعبي الذي حملته الأغنيات الشعبية عن الحروب الصليبية ربما كان وراء هذه الصورة الأخاذة التي ترتسم في أذهان عامة الناس في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية حين ترن في أذانهم عبارة (الحروب الصليبية).
فقد تخلت الأغنيات - الحكايات - عن الحقيقة التاريخية لصالح التعويض النفسي والتعبير الشعبي لتلك الظاهرة التي كانت تمثل في حينها حلما من أحلام الفقراء.
ولعل هذا ما جعل مؤرخا مثل نورمان كانتور يقرر أن الحادث الوحيد الذي يعرفه الخريج العادي من الجامعات الأمريكية في العصور الوسطى هو الحملة الصليبية الأولى التي بدأت أحداثها سنة 1095م، والتي يرسم لها في ذهنه صورة براقة أخاذة. وهذا الموقف ينسحب على الفرد العادي أيضا في الغرب، بل إننا كثيرا ما نرى قادة الرأي والساسة الغربيين يستخدمون مصطلح «الحملة الصليبية» بهذا المفهوم «النبيل والعادل».
بيد أن المؤرخين الماركسيين في الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الشرقية «السابقة» لا يشاطرون أبناء الغرب الأوروبي هذا الموقف من «الحروب الصليبية»، فقد عانت بلاد البلقان من وحشية الصليبيين على نحو ما سنوضح في حديثنا عن الحملة الشعبية والحملة الأولى، كما راحت الإمبراطورية البيزنطية وأملاكها ضحية الحملة الصليبية الرابعة في مطلع القرن الثالث عشر الميلادي، وظلت هذه المناطق تئن تحت وطأة الصليبيين أكثر من نصف قرن من الزمان.
ومن ناحية أخرى كانت ماركس وإنجلز ولينين يرون - ولهم الحق في ذلك - أن «الحملات الصليبية» كانت مشروعات استعمارية استيطانية تهدف إلى استعباد الشعوب تحت راية الصليب. وقد جسد لينين هذه النظرية حين اعتبر الإجراءات التي اتخذت عشية الحرب العالمية في ايرلندا ضد العمال «حملة صليبية» ضد العمال وحقوقهم. وقد درج الماركسيون على تضمين مصطلح «الصليبية» معنى مجازيا سلبيا في كل كتاباتهم.
وفي الأدبيات العربية التي تناولت تاريخ الحركة الصليبية نجد مفارقة مدهشة. فعلى الرغم من أن المؤرخين المسلمين الذين عاصروا الهجوم الصليبي على المنطقة العربية وكتبوا عنه مثل ابن القلانسي، وابن الأثير، وابن واصل، وابن شداد، والعماد الأصفهاني، والمقريزي، والقلقشندي، وابن تغري بردي، وبدر الدين العيني وغيرهم، لم يستخدموا أبدا مصطلحات مثل «الصليبيين» أو «الحملة الصليبية» أو «الحرب الصليبية» وإنما تكلموا عن الصليبيين بعبارات مثل «حركة الفرنج»، كما وصفوهم على الدوام بكلمة الفرنج على الرغم من أن كثيرين من أولئك المؤرخين المسلمين كانوا يفرقون بين الألمان والإنجليز وغيرهم من شعوب أوربا الغربية.
والواقع أن المؤرخين المسلمين الأوائل، مثل ابن القلانسي وابن الأثير، لم يدركوا أبعاد الحركة الصليبية، لأنهم لم يروا فيها غير إفرازاتها العسكرية والسياسية الباكرة على أرض الشرق العربي، إلا أن الجيل التالي من المؤرخين المسلمين تحدثوا عن هذه الحركة بطريقة تدل على فهم واضح وأشمل. ولعل هذا هو ما جعلهم لا يربطون بين «حركة الفرنج» والمسيحية والصليب على أي نحو. وربما يكون مؤرخو القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين (الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين) هم آخر من تناول «حركة الفرنج» بشكل أو بآخر، لا سيما وأن الكيان الصليبي كان قد انتهى في العقد الأخير من القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي).
ولقد توقف البحث التاريخي في العالم العربي فترة طويلة بفعل التخلف والركود الثقافي اللذين أحاطا بكافة جوانب الحياة العربية حتى القرن التاسع عشر على أقل تقدير. وعندما بدأت من جديد محاولات النهوض الثقافي والفكري كان لابد للرواد من أن يتأثروا برقي الفكر والثقافة والعلم في أوربا. ولم تنج الدراسة التاريخية من تأثير الانبهار الذي جعل الكثير ممن تصدوا لكتابة التاريخ أتباعا لهذه المدرسة الأوربية أو تلك.
وفي خضم هذا الانبهار أيضا تمت ترجمة بعض المصطلحات، واستعيرت تقسيمات التاريخ الأوربية، كما سادت الرؤية الاستشراقية..الخ. بيد أن هذا الأمر لا يهمنا في هذا المقام سوى من حيث تأثيره في معالجة المؤرخين العرب لقصة الحروب الصليبية، إذ وقع أولئك الكتاب في شباك الترجمة عن الأوربيين، وبدأوا يستخدمون مصطلح «صليبي» و«حملة صليبية» و«حروب صليبية» في تناولهم للظاهرة التي درج أسلافهم على معالجتها تحت مصطلحات «الفرنج» و«حركة الفرنج». ووجه الخطورة في هذا المصطلح أنه يوحي - عند استخدامه في اللغة العربية - بأن الحركة كانت حركة دينية ترتبط بالصليب رمز المسيحية، ولا تضعها في إطارها الصحيح باعتبارها مغامرة استعمارية استيطانية متعصبة. ومن ناحية أخرى، فإن استخدام هذا المصطلح يظلم المسيحيين الشرقيين الذين عانى قسم كبير منهم من وحشية الفرنج وعدوانهم.

Pages