You are here

قراءة كتاب تاريخ العرب - من بداية الحروب الصليبية إلى نهاية الدولة العثمانية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تاريخ العرب - من بداية الحروب الصليبية إلى نهاية الدولة العثمانية

تاريخ العرب - من بداية الحروب الصليبية إلى نهاية الدولة العثمانية

يعد مصطلح الحروب الصليبية نتاج عدد من التطورات التاريخية، والمفارقات الغريبة المدهشة في التاريخ الأوروبي وفي التاريخ العربي على حد سواء.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 6
ثم حدث تطور جديد وهام. فقد صارت البابوية تمنح الغفران لمن يرسلون المحاربين بدلا منهم، ولمن يساهمون بأموالهم في تمويل إحدى الحملات الصليبية عوضا عن المشاركة بأنفسهم. ونتيجة توسع البابوية في الاستخدام السياسي للحملة الصليبية، أي استخدام الفكرة الصليبية في شن الحرب ضد خصومها رجال أوربا الكاثوليكية نفسها، تم فتح الباب على مصراعيه أمام فكرة شراء الغفران بالمال. وهو ما أدى إلى ظهور مشكلة صكوك الغفران التي ثار ضدها مارتن لوثر فيما بعد.
ففي سنة 1246م أعلن البابا أنسونت الرابع حربا صليبية ضد الإمبراطور فردريك الثاني، وفي سياق الدعاية «الصليبية» قال البابا: «نحن نمنح الغفران لكل أولئك الذين لا يشاركون في الحملة شخصيا ولكنهم يرسلون المحاربين اللائقين على نفقتهم، حسب إمكاناتهم ونوعياتهم، ونمنحه أيضا للذين يقومون بهذا العمل على نفقة الآخرين، ونحن نرغب في أن يتمتعوا بكل الامتيازات والحصانة التي نمنحها في المجمع الكنسي العام لمن يساعدون الأرض المقدسة». وفي نهاية القرن الثالث عشر الميلادي كانت الدعوة إلى أي حملة صليبية تبدو للكثيرين، من رجال الكنيسة والعلمانيين على حد سواء، مجرد وسيلة لجمع الأموال للباباوات والفرسان لاستخدامها في عدة أغراض لا تتصل بالحرب ضد المسلمين في فلسطين. وفي سنة 1326م قال البابا يوحنا الثاني والعشرون: «لقد فكرنا أن نمنح هذا الغفران الذي كان الكرسي الرسولي قد اعتاد منحه، في حالات مماثلة، لأولئك الذاهبين إلى نجدة الأراضي المقدسة». لقد كان البابا يتحدث عن حملة صليبية متوجهة إلى إسبانيا، وليس إلى فلسطين حيث كان الوجود الصليبي قد انتهى منذ بداية العقد الأخير من القرن الثالث عشر الميلادي.
وإذا أمعنا النظر في هذه الأمثلة التي سقناها في السطور السابقة، وفي حالات كثيرة منحت فيها البابوية الغفران الكامل لكل من شارك في حملة من حملاتها التي وجهتها ضد العرب المسلمين، أو ضد خصومها السياسيين، أو المذهبيين في أوربا نفسها، أدركنا أن البلاط البابوي كان يرى في هذه الحملات جميعا عاملا مشتركا جعل الباباوات يتوسعون في استخدام الغفران الصليبي لتجنيد الجنود في الحملات الصليبية ضد المسلمين في فلسطين والأندلس وعلى شواطئ البلطيق، وضد المخالفات والمنشقين على الكنيسة الكاثوليكية، بل حتى ضد القوى العلمانية في الغرب الأوربي. لقد كانت «الحملة الصليبية» أداة من أدوات السياسة الداخلية والخارجية بالنسبة للبابوية. وكان الغفران الصليبي، لقاء المشاركة بالنفس أو عن طريق تجهيز المقاتلين أو بمجرد دفع المال، هو الحافز الذي استثمرته في هذا المجال.
وهكذا أدى التطور التاريخي إلى أن صار الغفران الصليبي يشترى لقاء المال على النحو الذي تطور به في شكل صكوك الغفران الشهيرة، بيد أن تلك قصة أخرى، وما يهمنا هنا هو أن مفهوم الغفران الذي ارتبط بالحج التكفيري كان مرتبطا أيضا بفكرة الحرب المقدسة. ومن الطبيعي أن تروق دعوة الحج المسلح في عيون الفرسان من أبناء الطبقة الإقطاعية في غرب أوربا على نحو خاص.
ومثلما تطور مفهوم الحج منذ بداية المسيحية حتى عشية الحروب الصليبية تطور مفهوم الحرب المقدسة، الذي كان من أهم روافد الأيديولوجية الصليبية.
لقد كان موقف آباء الكنيسة الأوائل حرجا وهم يواجهون مشكلة التوفيق بين تعاليم المسيحية الداعية إلى السلم ونبذ الحرب من ناحية، ومقاومة الشر الحتمي في الحياة الدنيا من ناحية أخرى. وفي العالم البيزنطي أدان اللاهوتيون، وعلى رأسهم القديس باسيل، الحرب باعتبارها قتلا جماعيا، ولكن هذه الإدانة لم يكن لها تأثير فعال على أرض الواقع.
أما في الغرب اللاتيني فقد كان الموقف أقل استنارة، ولم يكن الناس على استعداد لقبول هذه الآراء السلمية، بسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي نجمت عن الغزوات الجرمانية التي اجتاحت أوربا فيما بين القرنين الخامس والسابع الميلاديين، وأسفرت عن قيام عدة ممالك، والاختلاط السكاني الواضح. وكانت الضرورة الثقافية والاجتماعية تحتم تبرير استمرار القيم والمثل الجرمانية في ثياب مسيحية. وفي ذلك الوقت كان نظام الفروسية الغربي يتطور مدعوما بالملاحم البطولية التي أعطت المكانة والهيبة للبطل العسكري. ولم تستطع الكنيسة الغربية شيئا حيال هذه القيم والمثل العليا الجرمانية، فحاولت توجيه طاقتهم العسكرية وجهة تنفيذها.
وفي القرن الخامس الميلادي كان أول مفكر عالج مسألة تبرير الحرب على أساس ديني هو القديس أوغسطين (354- 430م)، وربما لا يزال أوغسطين هو أكثر من عالج مسألة الحرب على أسس مسيحية ماهرة. فقد حاول أن يضع تعريفا للحالة التي تصبح فيها الحرب حربا عادلة. وقد خضعت الشروط التي وضعها أوغسطين للحرب العادلة بعد فترة من الزمن للتبسيط الشديد من جانب علماء اللاهوت الأوربيين، بحيث اختزلت في ثلاثة شروط هي: 1- أن يكون هناك سبب عادل لشن الحرب، وعادة ما يكون هذا «السبب العادل» عدوانا، أو عملا ضارا أتاه الآخرون. 2- أن يرتكز قرار الحرب على سلطة شرعية، وعادة ما تكون هذه السلطة علمانية بطبيعة الحال (على الرغم من أننا سوف نرى أن الكنيسة قد انتزعت لنفسها حق إعلان الحرب المقدسة، ثم الدعوة إلى الحملة الصليبية). 3- ويتمثل الشرط الثالث في سلامة القصد، أي أنه يجب على كل مشارك في الحرب أن تكون دوافعه نقية سليمة، كما ينبغي أن تكون الحرب هي الوسيلة الوحيدة المتاحة لتحقيق هدف عادل.
وفي رأي أوغسطين فإنه يجب استبعاد السلام من الأسباب العادلة للحرب، لأن كل طرف يشن الحرب من أجل السلام الذي يتوافق مع مصالحه. وفي الواقع فإن التقلبات السياسية في أوربا آنذاك كانت تتيح فرصة هائلة لتفسير كل من هذه الشروط الثلاثة بما يتفق والمصالح السياسية للطرف الذي يشن الحرب.
وقد كانت التقلبات السياسية والأحداث العسكرية العنيفة التي مر بها الغرب في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين مواتية تماما لإبراز مفهوم الحرب الدفاعية، وتأكيد شرعيتها، إذ أن الهجمات التي شنها الاسكندينافيون الوثنيون، وهجمات المجريين والمسلمين على أنحاء متفرقة من أوربا في هذين القرنين مثلت ضغطا على سكان أوربا الذين عاشوا أوقاتا صعبة عقب انهيار الإمبراطورية الكارولنجية.
ومن ناحية أخرى كانت ثروات الكنائس والأديرة هي الهدف الذي يجتذب الغزاة في كل مكان، ومن ثم كان ضروريا على الكنيسة وعلماء اللاهوت أن يدعموا فكرة الحرب الدفاعية العادلة. ولأن المغيرين جميعا لم يكونوا من المسيحيين (لأن الفايكنج لم يعتنقوا المسيحية إلا بعد استقرارهم في نورماندي بغرب فرنسا في مطلع القرن العاشر الميلادي، كما أن المجريين اعتنقوا المسيحية في وقت قريب من هذا) فقد كانت فكرة الحرب العادلة مرتبطة بفكرة الحرب ضد الوثنيات (أي غير المسيحيين) ولذلك تحولت إلى مفهوم الحرب المقدسة.

Pages