تأتي هذه الرواية (هبة الله) بعد روايتي الأولى (الزيت المبارك) والتي أخذت طريقها نحو المطبعة، راجياً أن يستمتع بهما القارئ، ويجد فيهما كل خير وفائدة ومنفعة، وأن يتركا بصمات وآثاراً واضحة على طريق الرواية الأصيلة، التي تستمد وجودها من الحق الباقي الذي قام علي
قراءة كتاب هبة الله
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 1
1 )
بيت الحاج حسان من أوائل البيوت التي أنشئت في حارة البيادر , عمارة بيضاء واسعة من الحجر الأبيض من دورين , يقيم الحاج وزوجته في الطابق الأول مع الخادمة الإندونيسية , ويقيم آخر العنقود ابنهم الأصغر ضياء أو ذراع الحاج الأيمن في الطابق الثاني , مع زوجته التي لم يمض على زواجهما عام واحد حتى رزقهما الله بحسان الأصغر , أما ابنا الحاج الآخران فيقيمان بعيدا ً مع الذرية الكبيرة .
يحيط بالبيت من الجهات الأربع حديقة غناء تنتشر فيها الأشجار المثمرة من كل صنف ولون , ومسطحات مربعة ومستطيلة من النجيل الأخضر , ومجسمات هندسية على شكل كرة أو مكعب أو متوازي مستطيلات مقصوصة بإتقان من نباتات السرو واللاكستروم الزاحف .
وتنتشر في الحديقة شعبة من الممرات الطويلة المبلطة النظيفة التي تغطي كافة أرجائها , دون أن تتلوث أقدام المتنزهين بالتراب أو الطين . وأحسن الأوقات للتجول في جنباتها هو سكون الليل تحت الأنوار الكاشفة المنبعثة من الأسفل والأعلى والموزعة بعناية , لتجعل الناظر يتوجّه ببصره إلى مناطق معينة , ويشعر أنه في مكان ساحر مختلف خارج عن حدود الحياة الدنيا .
إذا نظرت إلى الحاج فسيلفت نظرك سيماء العز والنعيم والاطمئنان , وكأنه في الخمسين من عمره وهو قد بلغ السبعين , وسترى زوجته الحاجة خديجة وكأنها في الثلاثين وهي قد تجاوزت الخامسة والخمسين , وما ذلك إلا للحياة الناعمة التي يرفلون بها والبعيدة عن التعب والهموم والنكد .
يخرج الحاج حسان من الحديقة , ويجلس بجانب ابنه ضياء في سيارة المرسيدس في جولته اليومية المعهودة , فيقبل ضياء يده , وينظر إلى أبيه نظرة حب وإعجاب , ويسأله بعطف وحنان عن صحته , ويهتم به اهتماما ًصادقا ً .
وهذا الخلق : العطف والحنان والحب هو أهم ما يميز علاقة ضياء بأبيه وأمه منذ الصغر , وهذا ما جعل الحاج يستبقيه في السكن قريبا ً منه في الطابق الثاني , ويجعله رفيقه الشخصي في جولاته وأعماله , وهذا لا يعني أن الحاج قد أهمل ولديه الآخرين بل خصص لكل واحد منهما سكنا ً وعملا ً كبيرا ً من أعماله الكثيرة يشرف عليه ويديره ، بل إن ابنتيه المتزوجتين فاطمة وخولة واللتين يسميهما الحاج الغاليتين الحنونتين قد تم إعطاء كل واحدة منهما سكنا ً خاصا ً وسيارة حديثة , كإخوانهما تماما ً , فالحاج يخاف الله ولا يفرق بين أبنائه وبناته , بل على حد تعبير الحاج :
" البنت الصالحة أنفع لأبيها يوم القيامة من الابن إذا أحسن تربيتها , حيث تكون له سترا ً من النار , وتمد له يدها فتسحبه من شدائد القيامة التي يشيب لهولها الولدان , كما فعلت طفلة مالك بن دينار , عندما مدت يدها لأبيها في عرصات القيامة وهو يعاني الأمرّين , كما هو في القصة المشهورة " .
تصل السيارة إلى عمارة النعمة ذات الطوابق الأربعة , حيث يلاقيهم على الباب محمد ابن الحاج الأكبر فيقبل يد أبيه , ويدخل مع الحاج إلى الطابق الأرضي المفتوح على شكل مركز تسوق كبير يجد فيه المشتري كل ما يلزمه .
يسير الحاج في جولات طويلة بين الرفوف , ناظرا ً إلى البضاعة , متفقدا ً النواقص , ملقيا ً التحية على من يصادفه من العمال أو المشترين , مبديا ً بكل أدب بعض الأوامر والملاحظات التي ُتقابل بهزة رأس ُموافقة مع كلمة : " حاضر " .
يركب الحاج المصعد مع ضياء ومحمد , متفقدا ًجميع الطوابق التي تنتشر فيها المحلات التجارية والمكاتب والعيادات .
ينتقل بعد ذلك إلى محطة الوقود الضخمة التي يديرها ابنه جمال , والتي تجد فيها كل ما يلزم المركبات من الوقود والتنظيف ومحلات الميكانيك والكهرباء وقطع الغيار ومركز التسوق والمطعم الكبير وألعاب الأطفال ومسجد للصلاة , فيتحرك فيها في جولة واسعة , برفقة ولديه جمال وضياء , اللذين يهرولان حوله مسرورين , ويلبيان رغباته القليلة التي يطلبها , وعيناه تتنقلان بين السيارات التي تملأ خزاناتها بالوقود وبين الأخرى التي تغيّر الزيت وتتعرض لعمليات التنظيف والتلميع .
ثم يدخل الحاج كعادته اليومية إلى مسجد المحطة فيصلي الضحى ويرفع يديه بالشكر لله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى , ويخرج من المسجد ليتلقى نظرات الحب والإعجاب من ضياء وجمال , وليضع رجليه في الحذاء الذي يحمله ضياء بعد أن حسم السباق اليوم لصالحه , السباق الطيب نحو حذاء الأب المثالي .