تأتي هذه الرواية (هبة الله) بعد روايتي الأولى (الزيت المبارك) والتي أخذت طريقها نحو المطبعة، راجياً أن يستمتع بهما القارئ، ويجد فيهما كل خير وفائدة ومنفعة، وأن يتركا بصمات وآثاراً واضحة على طريق الرواية الأصيلة، التي تستمد وجودها من الحق الباقي الذي قام علي
قراءة كتاب هبة الله
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 6
( 4 )
في طرف حارة البيادر يعيش جلال أبو فراس في سهل خصيب محاط بسور يجاوز الثلاثة أمتار , تتوسطه فيلا ضخمة , تحيط بها حديقة ذات أشجار جميلة ظليلة , وتضم في جنباتها بركة السباحة الرخامية الواسعة التي في قعرها فتاة فسيفسائية تعزف على آلة موسيقية , وعندما تتحرك المياه الزرقاء فإن الأوتار تتماوج وتبدأ أصابع الفتاة بالعزف , وتنساب موسيقى ناعمة لا يعرف من أين مصدرها .
هكذا تكلم السباك بسام الذي عاين الفيلا مرة واحدة عندما طلبوه لإصلاح عطل بسيط في تمديدات المياه , ويقول بأنه رأى حنفيات ومغاسل ذهبية إلا أن رجال الحارة ضحكوا منه ولم يصدقوا كلامه ، فالذهب غال وليس له مكان إلا أعناق وآذان ومعاصم النساء السعيدات .
أبو فراس يعيش في حي البيادر , لكن كأنه يعيش في منطقة أخرى بعيدة , فالناس لا يرونه إلا من خلف نظارته السوداء في الكرسي الخلفي من سيارته الفخمة ذات الزجاج الملون , حيث يبدو بسحنته السمراء العابسة ورقبته المجعدة وشعره الأسود المصبوغ وكرشه الكبير والسيجار الثخين الذي يعضه عضا ً بأسنانه الطويلة ، وأصابعه التي تتحلى بعدد من الخواتم الذهبية الضخمة .
قليل من أهل الحارة يعرفون ابنه الوحيد فراس أو بناته أو زوجته أو تفاصيل حياته أو بيته من الداخل , والأخبار عنه قليلة , إلا أن هناك شائعات كثيرة عن الليالي الحمراء التي يحييها في الفيلا حيث تدار الكؤوس على أنغام الموسيقى التي تلاحق الهز المتتابع من خصر الراقصة الشرقية بزيها القصير المتوهج , أو الحركات السريعة الصادرة عن صدور الغجريّات اللواتي يرقصن حافيات تحت الأنوار الكاشفة في ساحات الحديقة .
ويتحدث الكثيرون عن السهرات اليومية التي يقضيها أبو فراس في النوادي الليلية التي تستمر حتى الفجر , وعن الرحلات الطويلة التي يقضيها في سوريا ولبنان ومصر وتركيا وأخيرا ً إسرائيل , ويقولون بأنه لم يترك راقصة تسلم من شره في هذه البلدان الخمسة , ولو كان يُحسن اللغات الغربية لشملت رحلاته المباركة كافة أرجاء أوروبا والأمريكيتين !
نعيم الزبال ببذلته البرتقالية الكالحة حدّث أهل الحارة عن ماضي أبي فراس البعيد , وأخذ الرجال الجالسون في ساحة بقالة الزهور يرشفون الشاي , ويستمتعون بالحديث , ويتابعون حركة أصابع نعيم المرتجفة وهو يلف الهيشية ويبلل حافتها بلسانه ثم يقضم طرفها :
- " جلال زميلي أعرفه كما أعرف نفسي وتفاصيل وجهي لكنه الآن يشيح عني , وإذا رآني في الطريق يمتعض , حتى أنه مرة قذف السيجار - الله لا يسامحه - من شباك سيارته باتجاهي , جلّول - كما كنا نسميه – الذي كان لا يشبع من الخبز يقذف سيجاره في وجهي ، وينسى كم كان يغطس في الحاويات وأكياس الزبالة يبحث عن بقية من طعام تسد جوعه , ولا أزال أذكر ضحكته الرنانة عندما خرج من الكيس كيس الزبالة , وهو يحمل علبتين من السردين بالفلفل صارخا ًغير مصدق :
- " ما زالتا مغلقتين يا نعيم , والله لم يفتحهما أحد "
فقلت له :
- " وأنا وجدت كيسا ً فيه ثلاثة أرغفة ما زالت طريه "
فجلسنا نأكل وهو يلتهم قرون الفلفل الأحمر التهاما ً, وعيناه على لقمتي , ولسانه يتحرك قائلا ً بلا حياء :
- " خفّ يدك قليلا ً عن السردين , صغّر لقمتك . ركبناه على الحمار , فمدّ يده على الخُرج ! "
يقول ذلك على الرغم من أنني أطعمته مرارا ً دون كلام ولا منّ , لكن اللئيم لئيم !