"الآباء اليسوعيون"؛ هذا كتاب خارج عن المألوف بموضوعه ومضمونه.
قراءة كتاب الآباء اليسوعيون
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
عام 1521 كانت بمبلونه مهددة من قبل جيوش فرانسوا الأول، فأوكلت إلى إينيغو مهمة العودة إلى منطقته طلباً للمساعدة، فعاد مع سوقة عسكرية تحت إمرة أخيه مارتن. رفض السكان منطق الحرب، وفضلوا الاستسلام دون إراقة الدماء، لكنّ إينيغو في ذروة حماسه، صمم على الدفاع عن الشرف والكرامة. بدأ الهجوم الفرنسي بجيش قوامه ثلاثة عشر ألف جندي تحت إمرة أندره دو فوا. بعد انسحاب فرنسيس دو بومون المكلف الدفاع عن المدينة، قرّر إينيغو، وخلافاً لرأي الجميع، التصدي والقتال على الرغم من تفوق العدو عدداً وعدة.
بدأت المعركة وتم قصف المدينة بالمدافع طوال ست ساعات، مما أدى إلى إصابة إينيغو في رجله اليمنى وفخذه الأيسر. تهاوت عزيمة المحاصرين مع إصابة إينيغو، واستسلم الحصن يوم اثنين العنصرة في 20 أيار 1521، مما وضع حداً نهائياً لمسيرته العسكرية. من جهتهم، عامل الفرنسيون المنتصرون القوات المهزومة بطريقة لائقة معربين عن إعجابهم بشجاعة إينيغو، وأعادوه إلى قصر دي لويولا حيث وضعوه في عهدة الجراحين. لكن بعد فشل العملية الجراحية الأولى، ساءت أحواله الصحية إلى أقصى الحدود في أواخر شهر حزيران، وتزوّد الأسرار الأخيرة في يوم عيد القديس بطرس. تحمّل الألم بصبر وشجاعة، واعتقد الجميع أنه على شفير الموت، لكن حالته الصحية تحسنت فجأة، وطلب من الأطباء إجراء عملية أخرى على الرغم من معارضة أهله ومقرّبيه. وها هو أغناطيوس يصر على اختبار الألم والعذابات الدنيوية لأن «المجزرة» الجراحية الثانية على الرغم من نجاحها تركت نتوءاً في العظم حيث أصبحت الساق المكسورة أقصر من الأخرى. مرةً ثالثة خضع إينيغو إلى عملية تركت بصماتها وبات يعرج حتى أواخر أيام حياته.
أثناء فترة نقاهته الطويلة أخذ أغناطيوس يحلم بالحب والفوز بقلب سيدة من طبقة النبلاء الكبار حرص دوماً على عدم الافصاح عن اسمها تقيداً بمبادىء الشرف التي كانت عزيزة عليه. أمّا المرأة التي سيطرت على عقله وتفكيره فكانت على الأرجح الدونا كاتالينا أخت الأمبراطور شارلكان التي احتجزتها معها سابقاً في قلعة تورديسيلاس والدتها «جَان المجنونة» حيث تسنى لإينيغو مقابلتها في عداد وفد رسمي.
مرّت فترة النقاهة ببطء مما جعله يطالب بالكتب من أجل تمضية الوقت، فزوّدته زوجة أخيه مجدلينا بكتاب عن حياة يسوع للودولف الكرتوزي وآخر عن حياة القديسين لجاك الفوراجيني، تركا لديه كبيرالأثر. عندما طلب أغناطيوس الورق بغية الكتابة، أخذ وقته في التأمل والمقارنة بين أحاسيسه المتضاربة، ولكنه شعر في قرارة نفسه أنّ شيئاً ما قد تغيّر، إذ في ليلة من الليالي رأى صورة السيدة مريم العذراء مع الطفل يسوع، مما جعله يقرر الابتعاد كلياً عن ملذات الحياة الدنيوية، ولم يعد يقبل بالأحاسيس الجنسية أبداً.
في أواخر شهر شباط عام 1522 غادر أغناطيوس المنزل العائلي بصحبة شقيقه مارتن وخادمين، وهم يرتدون ثياباً فاخرة في اتجاه نافاريت، حيث قابل الدوق وتسنى له إيفاء بعض الديون القديمة، ثم عمد إلى مقايضة ثيابه الفاخرة بأخرى بالية، من أجل البدء بالرحلة نحوالقدس على طريقة الحجاج. كان إينيغو يعمل على تحقيق بعض الإنجازات مردّداً: «القديس دومينيك فعل ذلك، يجب أن أفعله أيضاً. القديس فرنسيس حقق ذلك ، يجب أن أحققه أيضاً» .
إن الممر الذي لم يكن هناك أي مجال للالتفاف عليه هو دير مونسرات أو الجبل المنشور على طريق برشلونة، من حيث تبحر السفينة في اتجاه القدس مروراً بالبندقية4. في طريقه من نافاريت إلى مونسرات لحق به أحد المغاربة راكباً بغلة، وهو المسلم الذي كان قد اعتنق المسيحية مكرهاً بعد صدور مرسوم عام 1492. دارت بينه وبين المغربي نقاشات حول استحالة عذرية مريم بعد ولادة يسوع، ثم ذهب المغربي في طريقه، عندها قرر أغناطيوس اللحاق به وقتله دفاعاً عن شرف السيدة مريم العذراء. وعندما وصل إلى مفترق طرق احتار في الوجهة التي عليه أن يسلكها، عندها أرخى العنان لبغلته وقرر في حال توجهت الدابة نحو القرية التي قصدها المغربي لحق به وطعنه حتى الموت، أما اذا سلكت الدابة الطريق الأخرى فإنه سوف يتركه وشأنه. لكن الدابة سلكت «درب الخلاص» واضعة حداً لنيات أغناطيوس الإجرامية؛ فهل هذا يعني أنّ حكمة الدابة هي التي ساهمت في إنقاذ المغربي ووضع أغناطيوس على طريق رئاسة الرهبانية اليسوعية ثم القداسة لاحقاً5؟ لقد رأى أحد كتاب سيرة أغناطيوس دي لويولا فيه «ديكتاتور النفوس»6 الذي كان يجهل في منريسا حقيقة روما الفاسدة وما يجري فيها من فضائح وخطايا، على الرغم من أنّ كل ما شهده ولمسه لاحقاً لم يمس بولائه المتناهي إلى الحبر الأعظم والكرسي الرسولي.
في 21 آذار وصل أغناطيوس إلى دير الرهبان البينديكتيين7، حيث أمضى ثلاثة أيام في التأمل والاعتراف، وحصل على مغفرة خطاياه، ثم خرج مع الفجر مردداً: «في خدمة إلهنا وسيدنا يسوع المسيح». وطوال ثلاثة أيام قام بكتابة اعترافه العام، الذي سلّمه تحت ختم السرية إلى الراهب الفرنسي يوحنا شينون، وقام بتعليق سيفه وخنجره على طريقة الفرسان فوق مذبح السيدة العذراء السوداء (Virgen Morena) على جبل مونسرات، ثم نزع عنه ثياب الفارس وأمضى ليلة عيد البشارة في التأمل والصلاة8. عند الفجر قصد منريسا التي تبعد مسافة 300 كلم عن أثبيتيا حيث مكث فيها سنة كاملة خلافاً لتوقعاته. ولقد ساورته خلال تلك الفترة مرحلة من الشكوك والقلق، وأمضى جلسات طويلة في التأمل على سفح الجبل في منريسا وانصرف إلى استجداء الصدقات مبتعداً عن تناول اللحوم وشرب النبيذ باستثناء أيام الآحاد، تاركاً شعره وأظفاره تنمو تكفيراً عن ذنوبه القديمة في التأنق وحب الملذات حتى وصل إلى حد التفكير في الانتحار.
بعد مرور سنة على أغناطيوس وهو على هذه الحالة النفسية المضطربة، حصل حادث سوف يكون له كبير الأثر على حياته لاحقاً؛ ففي رحلته نحو صومعة القديس بولس، وعلى الطريق الذي يشرف على الكاردونر وهي البحيرة التي تروي منريسا، جلس إينيغو متأملاً، إذ حدث انبهار لم يتمكن من تفسيره أو من تحديد نوعه استناداً إلى أقوال المؤرخين (استنارة الكاردونر). في نهاية حياته تطرق أغناطيوس إلى وقع هذا الحدث الذي بقي مبهماً، والذي جعل منه إنساناً مختلفاً. عندما ارتفع بالروح، وخرج من هذا الانخطاف تغير تغيراً عميقاً، وهذا ما نجده في كتيبه «الرياضات الروحية»، أساس كل الروحانية اليسوعية. هكذا، تحرّر أغناطيوس من وساوس الشيطان وأصبح عقله يرتفع وكأنه يرى الثالوث الأقدس أو جسد السيد المسيح على صورة أشعة بيضاء، أو ينكشف له كيف خلق الله تعالى العالم. بقي أغناطيوس وفياً لمشروعه الأول، أي الذهاب إلى القدس، وفي شهر آذار عام 1523 توجه إلى برشلونة بهدف الإبحار إلى إيطاليا بغية الحصول على مباركة الحبر الأعظم أدريان السادس وفقاً للتقاليد المتبعة في تلك الأزمنة. في رحلته سيراً على الأقدام نحو مدينة البندقية وهو يتسوّل، مرّ بمدينة بادوفا حيث ظهر له السيد المسيح، ثم أكمل طريقه إلى أن وصلها منهكاً متعباً.