"الآباء اليسوعيون"؛ هذا كتاب خارج عن المألوف بموضوعه ومضمونه.
قراءة كتاب الآباء اليسوعيون
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
في 14 تموز وهو على وشك الإبحار على متن السفينة نيغرونا أصابته حمى قوية، ونصحه الأطباء بالتخلي عن الذهاب لأن البحر سوف يكون مثواه الأخير، في حال أصر على السفر. ولكن عناده ساهم في إصراره على متابعة السفر، وإلى معاناة طويلة أثناء الرحلة حيث ذاق الأمرّين. وصل أغناطيوس أخيراً إلى جزيرة قبرص حيث كانت باخرة الحجاج إلى الأراضي المقدسة في انتظار المسافرين، والتي أبحرت لاحقاً نحو مرفأ مدينة يافا. في الرابع من أيلول عام 1523 وصل الحجاج إلى المدينة المقدسة تحت حماية الأتراك على الرغم من تجاوزاتهم وسوء معاملتهم للحجاج المسيحيين. اصطدم أغناطيوس فور وصوله بالرهبان الفرنسيسيين حراس الأماكن المقدسة المسيحية الحريصين كل الحرص على امتيازاتهم، والذين أقنعوه مرغماً بالعودة إلى أوروبا حفاظاً على حياته. في طريق العودة إلى إسبانيا حصلت معه استنارة جديدة في مدينة البندقية، حيث قرّر الانصراف إلى الدراسة من أجل مساعدة النفوس والتعليم، معلناً هكذا في طريقة غير مباشرة عن مشروعه «اليسوعي».
بعد رجوعه إلى إسبانيا اتخذ قراراً بمساعدة النفوس، مما يدل على رغبته ونيته في تجنيد رجال مؤمنين مثله على أتم الاستعداد لمساعدة الفقراء والتبشير بالإنجيل المقدس. رأى أغناطيوس أنّ من واجباته أن ينصرف إلى الدراسة بعض الوقت، فانتسب إلى جامعة ألكلا دي هناريس في برشلونه، حيث التقى ثلاثة شبان أقنعهم بمرافقته إلى مدينة القدس. ضمّت هذه المجموعة في عدادها فرنسياً واحداً وكانت معروفة بلباسها، إذ أطلق عليها لقب الأردية الرمادية أو المستنيرين. أقلق هؤلاء راحة محاكم التفتيش، ثم ما لبث أن ألقي القبض على أغناطيوس في 19 تشرين الثاني 1526، وجاء الحكم مخففاً، إذ ألزم أغناطيوس ورفاقه بأن يلبسوا ثياباً سوداء كباقي رجال الإكليروس. بعد الإفراج عنه قصد سلمنكة حيث تمّ التعرف إليه وإتهم بالهرطقة بسبب تعاليمه، وأودع السجن مجدداً، ولم يطلق سراحه إلّا بعد 25 يوماً.
بعد التدقيق في كتابه «الرياضات الروحية» بعناية فائقة، جاء حكم سلمنكة مطابقاً لحكم ألكلا أو القلعة، أي عدم وجود أية آثار للهرطقة في كتاب أغناطيوس كما في تعاليم باقي أعضاء المجموعة. لكن الحكم الذي صدر قضى بمنعهم عن التحدث في علم اللاهوت قبل تمضية أربع سنوات إضافية في البحث والدراسة. نفذ صبر أغناطيوس، ومحاكم التفتيش في أثره تفرض عليه الشروط التعجيزية، فترك إسبانيا متوجهاً إلى باريس التي وصلها في 3 شباط 1528، وهي المدينة التي كانت تضم أربعة آلاف طالب، وخمسين معهداً وأفضل جامعة في أوروبا. انتسب إينيغو أو أغناطيوس إلى معهد مونتيغو، ولم يثنه أي شيء عن مواجهة النظام الصارم الذي كان عرضة لتهكم إراسموس. كان يستجدي طعامه في الشوارع ويسكن في مستشفى القديس يعقوب، وفي فترة الصيام كان يذهب إلى منطقة الفلاندر طالباً الحسنة من التجار الإسبان الأغنياء. عام 1530 وصل حتى لندن ساعياً إلى تأمين احتياجاته الضرورية من أجل الانصراف إلى الدراسة في معهد مونتيغو ثم في معهد القديسة بربارة ابتداءً من الأول من تشرين الأول عام 1529، وكان يرتدي لباس رجال الإكليروس الباريسيين، وهو الزي الذي حافظ عليه حتى مماته.
يعتقد المؤرخ اليسوعي الإسباني بدرو دي ليتوريا9 أنّ الرفاق السبعة الأوائل كان هدفهم خلاص النفوس في فلسطين وحمل «الكفار» على اعتناق المسيحية حتى ولو أدى ذلك إلى استشهادهم كما السيد المسيح على طريق الجلجلة. ولكن هؤلاء اصطدموا بالواقع عندما اقتنعوا باستحالة الوصول إلى القدس في الوقت الذي كانت فيه الأراضي المقدسة محظورة، والوصول اليها غير ممكن، بحيث أصبحت هذه المهمة التبشيرية مستحيلة. لذلك استعاضوا عن مشروعهم الأساسي وتحولوا نحو روما مطالبين بالخضوع التام إلى الكرسي الرسولي الذي كان في أمسّ الحاجة إلى هذا النوع من المؤمنين الزاهدين الأنقياء والأتقياء. نعم، لقد استسلم اليسوعيون الأوائل إلى الواقعية وتأقلموا معها، وأعادوا توجيه نشاطاتهم نحو بلاد الهند الشرقية والغربية، واستبدلوا المكان الرمزي أي القدس بمركز إستراتيجي وهو روما.
عند تمركزهم في المدينة الخالدة حاز الآباء اليسوعيون سريعاً على ثقة البابا واحترامه، وهو الذي كان قد بدأ حركة إصلاحية كنسية هامة في الوقت الذي كانت فيه الكنيسة الكاثوليكية الرومانية برمتها مهددة بالهلاك. تلقف البابا بولس الثالث المتمرس في فن السياسة والمناورات، هذه المجموعة الزاهدة واستمع إليها بعناية واستعملها بدراية من أجل استعادة مركز الكنيسة الكاثوليكية ومجدها في هذه الحقبة الحرجة والمأساوية من تاريخها...
كان إينيغو يتشارك غرفة مع بيار فافر وهو من منطقة السافوا، ونبيل آخر من منطقة النافارا يدعى فرانسوا كزافير. اضطر أغناطيوس إلى التخلي مؤقتاً عن ساعات التأمل الطويلة صارفاً اهتمامه إلى المنطق الفلسفي، حيث حاز في 14 آذار 1535 على درجة «أستاذ في جامعة باريس الكاثوليكية» الشهيرة. أصبح هكذا مطمئناً لانصرافه نحو إنقاذ النفوس من دون التعرض للمضايقات مع أنّ هذه المحاولة عرفت انتكاسة خطيرة. وأثناء دراسته لم ينسَ أغناطيوس الهدف الرئيسي من مجيئه إلى باريس أي إكثار العدد من معاونيه ورفاقه في الرحلة التبشيرية، فأهدى كتابه «الرياضات الروحية» إلى ثلاثة من رفاقه وهم من الجنسية الإسبانية الذين في ذروة إيمانهم واندفاعهم منحوا ثرواتهم إلى الفقراء، مما أثار استياء السلطات المدنية التي هدّدت أغناطيوس بالجَلد في الساحة العامة. استغرق إقناع فرنسوا كزافير بالمهمة الأغناطية ثلاث سنوات، وهو الرسول إلى الهند الذي ترك المسيحية متجذرة في آسيا عند وفاته. تجدر الإشارة إلى أنّ فرنسوا كزافير قبل انضمامه إلى المجموعة كان يُطلق على أغناطيوس لقب «أحمق شارع الكلاب».5
هكذا بدأت المجموعة تتكاثر ببطء، والتف حول أغناطيوس، فافر ثم كزافير ولاحقاً البرتغالي سيمون رودريغز الذي وصل باريس عام 1527 إضافة إلى اثنين من قشطالة هما الفونس سالميرون ولينيث. هذا الأخير كان متحدراً من عائلة يهودية غنية اعتنقت المسيحية، وهو أول خلف لأغناطيوس في عام 1558 على رأس الرهبانية اليسوعية. أما سالميرون المولود عام 1515 وصديق لينيث الحميم، فلقد كان سابع شخص ينخرط في عداد الرهبانية قبل نيكولا بوباديلا الذي أزعج أغناطيوس إلى حد بعيد بسبب تصرفاته الصبيانية وطباعه الاستقلالية. إتبع الرفاق طريقة عيش الفقراء استناداً إلى تعاليم الإنجيل المبارك، وحافظوا على مبدأ العفة، وكانوا يقيمون في ما بينهم ندوات روحية، وأعربوا عن عدم رغبتهم في الانضمام إلى أية رهبانية ولم يسعوا إلى تأسيس رهبانية جديدة.