كتاب "نساء مؤمنات"، للإمام يوسف القرضاوي، يقول في مقدمته: كتبت عن الإيمان والحياة ، وعن قضايا الإيمان الكبرى ، مثل قضية وجود الله جل جلاله ، وقضية التوحيد أساس الإيمان ولبه في الإسلام ، وقضية الإيمان بالقدر وغيرها .
You are here
قراءة كتاب نساء مؤمنات
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
تعاون على أعباء الحياة
دخل عليّ بفاطمة ، ولم يكن الطريق أمامه مفروشاً بالأزهار والرياحين ، بل كان مفروشاً بالأشواك ، مضرجاً بالدماء .
كان عليّ رجـلاً فـقـيـرًا ، لـم يـرث عن أبيه صفـراء ولا بيضاء ، ولا ثاغية ولا راغية (2)، فكان عليه ـ لأمر دنياه ـ أن يشق طريقه في الصخر بيديه ليقوت نفسه وأهله .
وكان عليه ـ لأمر دينه ـ أن يستعد لجهاد دام طويلاً لإرساء دعائم الإسلام ضد مشركين محاربين ، ويهود متربصين ، ومنافقين مذبذبين .
وكان على الزهراء أن تقاسم زوجها متاعب العيش وتكاليف الجهاد ، ووعثاء الطريق ، وقد فعلت فأحسنت ، وصبرت ، وكانت له خير عون على واجبات الدين ومطالب الدنيا .
وكان أول ما يُنتظر أن تقوم به هو عمل البيت ، ولم يكن في تلك العصور بالأمر الهين اليسير ، فالرغيف الذي يأتي اليوم من يد البائع إلى فم الآكل كان يحتاج إعداده إلى طحن بالرحا ، وعجن باليد ، وخبز بالوسائل البدائية حتى يصلح للطعام ، ولم يكن في البيت خادم ولا مساعد إلا المرأة الفاضلة فاطمة بنت أسد أم عليّ ، وكم كانت حيرته n بين أم يحرص على برِّها وراحتها ، وزوجة يرغب في تكريمها وصيانتها ، والطاقة لا تُسعفه ، والقدرة لا تُواتيه ، بيد أنه قسَّم بينهما العمل تقسيماً ودياًّ رضِيَ به كل منهما ، فقال لأمه : اكفي بنت رسول الله سقاية الماء والذهاب في الحاجة ، وتكفيكِ العمل في البيت : الطَحن ، والعَجن ، والخَبز . . .
ولم يُعرف عن فاطمة الزوجة ، وفاطمة الأم ، إلا التعاون والحب والوئام ، على غير ما تجري به العادة بين الزوجات والأحماء .
ولم يدخر أبو الحسن وسعاً في كسب لقمة العيش ، وولوج كل باب تهب منه رياح الرزق الحلال ، حتى إنه آجر نفسه مرة لامرأة من عوالي المدينة ، ومرة أخرى لرجل يهودي ، ينزع لهما بالدلو : كل دلو بتمرة ؟
هـذه كـانت حياة ابن عم رسول الله ، وزوجته بنت رسول الله ، هذا يشقى ويكدح خارج البيت ، وتلك تتعب وتجهد داخله ، فلما أفاء الله على رسوله ، وجاءته بعض الأنفال (الغنائم) قال عليّ لفاطمة : لقد سَنَوتُ (3) حتى اشتكيتُ صدري ، وقد جاء الله أباك بسبي فاذهبي فاسأليه خادماً ، فقالت : وأنا والله قد طحنتُ (بالرحا) حتى مجلت (4) يداي !
فأتت النبي * ، فقال : ما جاء بك يا فاطمة ؟ قالت : جئتُ لأُسلِّم عليك ، واستحيتُ أن تسأله ورجعت ، فقال عليّ : ما فعلتِ ؟ قالت استحييتُ أن أسأله ! فقرَّر أن يأتياه جميعاً ، فذهبا ، فقال عليّ : يا رسول الله ، والله لقد سنوتُ حتى اشتكيتُ صدري ، وقالت فاطمة : لقد طحنتُ حتى مجلت يداي ، وقد جاءكَ الله بسبي وسِعة فأخدمنا (أعطنا خادماً) فماذا كان جواب الأب الرحيم ؟ كان جوابه إعلاناً للمساواة ، وتكافؤ الفرص للجميع ، قال : والله لا أعطيكما وأدع أهل الصُّفَة تتلوى بطونهم ، لا أجد ما أنفق عليهم !
ورجعت فاطمة وزوجها يجرَّان قدميهما جرًّا ، فأتاهما النبي ، وقد دخـلا في قطيفهما ـ إذا غطَّت رؤوسهما تكشفت أقدامهما ، وإذا غطَّت أقدامهما تكشفت رؤوسهما ـ فنهضا ، فقال : مكانكما ، ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ قالا : بلى : قال : كلمات علمنيهن جبريل : تُسَبِّحان الله في دُبر كل صلاة عشراً ، وتحمدان عشراً ، وتكبرانِ عشراً ، وإذا أويتما إلى فراشكما فسَبِّحا ثلاثاً وثلاثين ، واحمدا ثلاثاً وثلاثين ، وكَبِّرا أربعاً وثلاثين . . فهذا خير لكما من خادم . .
قال عليّ : فوالله ما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله * .
ماذا صنع لهما النبي الكريم إلا أن زاد عليهما واجباً جديداً ؟ وأضاف إلى عملهما المادي عملاً روحياًّ آخر ؟ ! لكن العارفين يعلمون أن انشغال المرء بالأهداف الروحية ينسيه المتاعب المادية والجسمية ، فيحيا في الدنيا بقلوب أهل الآخرة . ويعيش في الأرض ، وكأنه من أهل السماء ، ومن ثَمَّ كان النبي * يواصل الصيام ويقول : وأيكم مثلي؟ إني أبيت يُطعمني ربي ويُسقيني ! !
وقد كان يحدث أحياناً بين فاطمة وعليّ ما يحدث بين كـل زوجـين من ملاحاة أو مغاضبة ، فيبلغ الأمر إلى رسول الله ، فما هي إلا كلمة أو ابتسامة حتى تنطفئ شرارة الغضب ، وتفقأ عين الشيطان . لم يجعل من نفسه محامياً للابنة وممثل الاتهام للزوج ، وإنما كان بينهما قاضياً عدلاً ، بل طبيباً حكيماً . روى الشيخان أن النبي * جاء بيت فاطمة ، فلم يجد علياًّ في البيت فقال لها : أين ابن عمك ؟ قالت ، كان بيني وبينه شىء فغاضبني فخرج ولم يقم عندي . فقال رسول الله لإنسان : انظر أين هو؟ فقال : يا رسول الله . . هو بالمسجد راقد ، فجاءه رسول الله وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب ، فجعل رسول الله * يمسحه ويقول : قم أبا تراب ، قم أبا تراب !
وعاد أبو تراب إلى بيته وزوجه ، وقد تقشَّع عنه الغضب كما يتقشع سحاب الصيف ، وعاد إلى سماء الزوجية الصحو والصفاء .
وروى أبو عمر قال : كان بين عليّ وفاطمة كلام فدخل رسول الله فلم يزَل حتى أصلح بينهما ثم خرج ، فقيل له : دخلتَ وأنت على حال ، وخرجتَ ونحن نرى البِشر في وجهك ؟ فقال : وما يمنعني وقد أصلحتُ بين أحب اثنين إليّ ؟
لقد عاشت فاطمة حياتها مع عليّ مثال الزوجة المخلصة الحليمة ـ مع ما في عليّ من شدة وخشونة ـ الصابرة الراضية ـ برغم إعسار زوجها وضيق ذات يده ـ وقد عرف عليّ لها فضلها ، وقدَّر لها جهدها في الحياة الزوجية ، وظل يذكر ذلك طيلة حياته ، قال مرة لابن أعبد : يا ابن أعبد : ألا أخبرك عني وعن فاطمة ؟ كانت ابنة رسول الله وأكرم أهله عليه وكانت زوجتي ، فطحنت بالرحا حتى أثَّر الرحا بيديها ، واستقت بالقرِبة حتى أثَّرت القربة بنحرها ، وقمَّت البيت (نظفته) حتى اغبرت ثيابها ، وأوقدت تحت القِدر حتى دنَّست ثيابها ، وأصابها من ذلك ضر . . .