كتاب " ايديولوجية العولمة " ، تأليف مازن منصور كريشان ، والذي صدر عن دار آمنة للنشر والتوزيع عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب ايديولوجية العولمة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ايديولوجية العولمة
ولكن الذي حدث بالفعل لم يكن كذلك فعلى الرغم من النفوذ الضخم الذي زاولته الكنيسة الكاثوليكية في اوروبا في العصور الوسطى، فلم تكن الشريعة الالهية مطبقة في غير قانون ( الاحوال الشخصية ) اما دافع الحياة الاكبر فلا تحكمه شريعة الله، وانما كان يحكمه القانون الروماني، وذلك الفصل بين الدين والحياة الواقعية كان سمة من سمات العصور الوسطى في اوروبا (12).
سادت في اوروبا في العصور الوسطى مؤسستان رئيسيتان هما، الكنيسة الكاثوليكية في روما والامبراطورية الرومانية المقدسة وكانت المؤسستان في صراع مستمر منذ القرن الحدي عشر على السلطة الزمنية مما ادى الى اضعاف المؤسستين بسبب الثورة الدينية التي فجرها مارتن لوثر (13) سنة 1517 فظهرت كنائس قومية بروتستانتية وكاثوليكية (14).
وكانت الثورة الدينية لعوامل كثيرة فبالاضافة الى العامل الديني كان هنالك العامل القومي، وطموح العوائل المالكة ومنازعاتهم، والحركة الفكرية والانسانية، والاستكشافات الجغرافية، والتقدم الاقتصادي، وظهور الطبقة الوسطى والرأسمالية الحديثة، وعوامل كثيرة ادت الى تغييرات سياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية، زعزعت المجتمع الاوروبي اكثر من قرن ونصف (15).
لقد شعر الناس بوجود مساوئ كثيرة في الكنيسة، من فساد رجال الدين، وفرض الضرائب الباهظة والكثيرة، كما ان الملوك والامراء والنبلاء كانوا يحسدون الباباوات ورجال الدين على صلاحياتهم الواسعة، وجمعهم الاموال الطائلة باسم ضريبة القديس وضريبة التوبة ـ والزواج، وغيرها من الاجور التي كانت تتكدس في خزائن الكنيسة وكان امراً طبيعياً ان (تأتي النهضة الاوروبية الحديثة) على مبعدة من الدين او على عداء مع الدين(16).
قامت الحروب الصليبية في العصور الوسطى (17) بين اوروبا والمسلمين في الشرق، وعلى الرغم من ان اوروبا لم تكن في حقيقتها ملتزمة بمسيحيتها الا انها تجمعت وتعصبت لمحاربة المسلمين، حرباً وصلت الى حد الوحشية في كثير من الاحيان، والتعصب ذاته دليل على التدين الزائف(18).
ولكن وجه الغرابة في ان تشن تلك الحرب باسم الدين المسيحي الذي يحرم كتابه المقدس (الانجيل) اللجوء الى العنف: " سمعتم انه قيل عين بعين وسن بسن واما انا فأقول لكم لا تقاموا الشر، بل من لطمك على خدك الايمن فحول له الاخر ايضاً" (19).
كانت الأيديولوجية الصليبية تعبيراً عن مجتمع غرب اوروبا في القرن الحادي عشر، افكاره، وقيمه، واساطيره، وروحه العسكرية، والمتغيرات الاجتماعية التي طرأت عليه ذلك المجتمع الذي فصل الدين عن واقع الحياة وجمع بين الوثنية والنصرانية. فكان طبيعياً ان يمتزج التعصب الديني كغطاء للحروب الصليبية مع دوافع رجال الدين والاباطرة والنبلاء المادية، ومشاعر الطمع والاستمتاع لديهم بخيرات الارض المقدسة التي تفيض باللبن والعسل، ودوافع الرعاع وعامة الشعب الذين اندفعوا من كل انحاء اوروبا رافعين راية الصليبيين هرباً من العمل الاقطاعي الشاق فكانت فرصة للمجرمين على اختلاف مستوياتهم للنهب والقتل والاغتصاب (20).
وكان احتكاك الصليبيين بالعالم الاسلامي ايذاناً بتحول جذري في الحياة الاوروبية، كما كان اتصال اوروبا بالاسلام في المغرب والاندلس هما اللذان احدثا النهضة الاوروبية الحديثة (21) وبدلاً من ان تهتدي هذه النهضة بالمنهج الرباني الذي انشأ الحضارة الاصلية التي اقتبستها اوروبا، فانها راحت تخاصم الاسلام في ضراوة وفي الوقت ذاته تخاصم (الدين) بشكل عام (22).
د. مفهوم الايديولوجية في عصري النهضة والاستنارة
دخلت اوروبا عصر النهضة في ظل ذلك الازدواج بين الوثنية والمسيحية ولكن بدأ الابتعاد عن الدين بالتدريج فاصبحت النهضة الفكرية والحضارية تسيطر على الحياة الواقعة وظهر في النصف الثاني من القرن السابع عشر مذهب (الدين الطبيعي) (23)، Deism متأثراً بالتقدم العلمي والفلسفي، فقد اخذ العلماء يكتشفون ( القوانين الطبيعية ) التي تسير الكون في نظرهم وينسبونها الى ( الطبيعة ) كقضية مسلمة لا يناقشها العقل، ولا منطق العلم الذي اكتشف تلك القوانين.
وظل التلازم بين الاخلاق وسائر الفكر الاجتماعي حتى جاء مشروع (ميكافيلي) (24)، N. Machiavelli وانهى ذلك التلازم ورفع شعار ( الغاية تبرر الوسيلة ) وبدت سمات الايدوليوجية تظهر في دعوته للاصلاح ووضع المصلحة الوطنية معياراً للسلوك وتبرير سلوك السلطةوتأسيس المشروعية السياسية وشكل الحكم (25) .
وكان اهم ما سعى اليه مفكرو ( عصر النهضة ) ربط ودمج الانسان وتوحيده بالعالم الطبيعي والتاريخ، وفهمه عبر هذا المنظور في تصور الحرب والسعادة واعاد المذهب الانساني (26) التعريف بالمدارس الفلسفية، ونتاجات الطب والرياضيات مما فتح الطريق لمساءلة التراث والنظر الى الطبيعة مجالاً يستنطقه الانسان، فأصبح الدرب سالكاً لنقد اللاهوتية المدرسية والفكر اليوناني الذي سادها على وجه الخصوص، ومن ثم التقدم باتجاه بناء العلم الحديث (27).
وعلى الرغم مما انجزته ( النهضة الاوروبية ) وما حققته حركة الاصلاح من تفكيك لدور ووحدة الكنيسة الغربية فقد ظلت أيديولوجيات ذلك العصر تتصف بمكونات روحانية وعناصر اسطورية ودينية تتمثل بها في الحياة ما هو قدسي ومطلق، ضمن ما يجري من علمنة لصورة العقيدة (28).
ومع حلول القرن السابع عشر الذي يسميه مؤرخو الفكر(بعصر العقل والاستنارة) اخذ المذهب الانساني يؤتي اكله لما تحقق من تحولات كبيرة نحو المعرفة العقلية وارساء اسس التقدم العلمي، وكانت الفكرة الاساسية للتنور او الاستنارة هي الاعتقاد السائد بان عقل الانسان قادر على ادراك النظام العالمي وفهم كنهه والسيطرة عليه وتسخيره لفائدة البشردون اللجوء الى اللاهـــوت والمعجزات، وقد اراد المتنورون كسب اعتراف العالم بمبادئ العلوم الطبيعية والافكار المنبثقة عنها في حقل الفيزياء والفلسفة والديــن
والتاريخ والسياسة والقانون (29).