You are here

قراءة كتاب حيفا برقة - البحث عن الجذور

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
حيفا برقة - البحث عن الجذور

حيفا برقة - البحث عن الجذور

كتاب " حيفا برقة - البحث عن الجذور " ، تأليف سميح مسعود ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 2

لَقيتْ تلك الشهادات صدىً واسعاً، بدا منها أن للناس العاديين من اللاجئين صوتاً يفوق صوت التاريخ السياسي المفبرك، لأنها أقرب إلى الصدق والحقيقة من الرواية الرسمية، إنها بمثابة حبل سري يربط الفلسطيني بهويته الوطنية.

تابعتُ تلك الشهادات باهتمام زائد لما فيها من لوحات جاذبة تركت فيَّ أثراً كبيراً، وأيقظت في نفسي أحاسيس الطفولة الباكرة التي تَأبى أنْ تُنسى.

ارتبطت هاتيك الشهادات بطفولتي في معناها الواسع والعميق، مع أنها ليست عني، بل عن غيري، وأحالتني إلى معين لا ينضب من لحظات مشرقة بددت بها بعض ما يعتريني من كآبة تلاحقني في شتات المنافي البعيدة.

على امتداد أيام كثيرة أضافت تلك الشهادات وجوهاً جديدة، رجالاً ونساء أكدوا في بوحهم على شاشات فضائيات كثيرة على أهمية توثيق التاريخ الشفوي الفلسطيني في فصول نابضة متشابكة، بما يتفق مع الرواية الشعبية، وبما يساعد على حفظ ما تبقى من الذاكرة الجمعية على مدى الأيّام.

وأكدوا أيضاً على ضرورة جمع الشهادات الشفوية الحية من صدور الرواة ممن تبقى من جيل النكبة قبل أنْ تضيع مع مرور الزمن، وتدوين كل ما فيها من دلالات ومضامين منقوشة في ذاكرتهم ومتجذرة في داخلهم عن حياتهم الماضية في فلسطين، وحياة أسرهم، وصلة القرابة مع غيرهم من الأسر، لاستحضار جذورهم والتعرف على قراهم ومدنهم بكل حناياها ومداراتها وجزئياتها وما فيها من تفاصيل حتى لا تُنسى وتبقى وشماً في مآقي العيون.

يمكن بالشهادات الشفوية محاورة الذاكرة وإصدار إشارات وصور واقعية عن كل ما مضى، ويمكن بها ترديد نبرات أصوات مسموعة للآباء والأجداد، عند تتبع سير الاحداث التي شهدتها الساحة الفلسطينية قبل النكبة، والكشف عن تفاصيل معاناة الحرب والمجازر واقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه وتشريده في منافي الشتات.. ويمكن بها أيضاً رسم ملامح بؤر نابضة ومتوهجة لغدٍ آتٍ تتلاشى فيه معاناة التشرد والتشتت الفلسطيني.

قد لا يعرف الكثيرون أن ما تمَّ تجميعه من شهادات في مجال البحث عن الجذور الفلسطينية حتى الآن لا يغطي إلا جزءاً يسيراً من الرواية الكاملة، ولايزال أمام الرواة الكثير لتدوين كل ما في صدورهم، من ذكريات عن المكان والزمان وعذاب الرحيل والشتات والهجرة القسرية، من أجل الخروج برواية تاريخية جماعية كاملة لما حدث قبل وخلال وبعد 1948.

الرواية المطلوبة مغايرة للتأويلات والروايات المتوافرة، التي هي مجرد تاريخ رسمي وبعض طروحاته غير متجانسة، بل حتى متضاربة ومتناقضة لا تجسد في كثير من جوانبها المفصلية حقيقة الأحداث.. تتعاقب بمختلف أشكال البلاغة الكلامية في سلسلة زمنية طويلة (متقطعة أحياناً) مفتقرة إلى المصداقية والوضوح، بحاجة إلى إعادة نظر حقيقية لما جاء فيها بتقصي حقائق الشهادات الشفوية الحية ومراجعتها وتحليلها للرد على الروايات السائدة.

استحوذت عليّ هذه المواضيع وجعلتني أفكر منذ أمد طويل في إصدار كتاب أضمنه جزءًا مما تختزنه ذاكرتي عن أيام مضت في فلسطين عشتها قبل النكبة والهزيمة.. أن أستل منها لحظات تدغدغني وتحرك مشاعري، تشكل جزءاً من حياتي، تطوف بي دوماً في مسقط رأسي حيفا وقريتي بُرقة، أريد من خلالها بتلهف زائد البحث عن فتات من جذوري، استحضار الطفولة بوعي حاضري الذي أحياه، وإعادة نصوص غائبة تراكمت في داخلي موشومة بخطوط متماوجة من جذور بلادي، أتلمس فيها مشاهدَ ما قبل النكبة، تتصل بالقرى والمدن الفلسطينية وما فيها من مآثر تراثية وعمرانية، وما فيها من حواكير وأشجار وحقول وحتى أتلام الأرض وأمواج البحر موجة موجة، ليس من أجل البكاء على الأطلال، بل من أجل التأكيد على عمق جذوري وجذور غيري من أبناء بلدي في فلسطين.

إن تسجيلي لتلك اللحظات على أوراقي بأحرف نافرة، لا يعني أنها على درجة من الأهمية والإثارة، وتحاكي ما لدى الآخرين الذين سبقوني في هذا المجال.. وإنما هي مجرد محاولة غريزية أريد بها أنْ أنثر بذور جذوري لأحفادي حتى لا يضيعوا في مضارب الشتات القصية، علِّي بهذا أدفعهم للتمتع بمخيلة عامرة عن فلسطين، ومقدرة فائقة على التعبير عن حبهم لها، واستحضارها ببؤر لاقطة، تعكس أرضها وسماءها وبحرها وترابها وكل ما فيها.

Pages