كتاب " حيفا برقة - البحث عن الجذور " ، تأليف سميح مسعود ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب حيفا برقة - البحث عن الجذور
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

حيفا برقة - البحث عن الجذور
كانت أمي منذ نعومة أظفاري تدعم أحاديث أبي بتفاصيل منها تتألف من أحداث كثيرة تكشف عنها بتعبيرات خاصة بها، وحين أعود الآن بذاكرتي إلى لقطات أحاديثها عن وقت ولادتي بالذات، تبرز أمامي فجأة صورتها وهي تختصر الأمور في أحاديثها بحكاية واحدة كانت متجذرة في داخلها، ردّدتها على مسمعي كثيراً بحزن شديد وبصوت تخنقه الغصة.. كانت تقول لي وهي رافعة ذقني براحة يدها: «في شهورك الأولى استشهد أحد أبناء عمومتي ؛ قائد الثورة العام عبد الرحيم الحاج محمد آل سيف «أبو كمال»».
كنت أنظر إليها محدّقاً في وجهها وهي تردد تلك الكلمات، وأزداد تعلقاً بها كلما رأيت الدموع تنحدر من عينيها على إيقاع حديثها عن أهوال أحداث استشهاد قريبها.
كرّرت أمي هذه الكلمات على مسمعي مئات المرات، كانت تارة تضيف إليها بعض الأوصاف لابن عمومتها الراحل، مثل: المجاهد والقائد وزينة الرجال. كانت تكسر في داخلي ظلال الحاجز القائم بين الصحو والحلم.. بين الواقع الخارجي المعيش، وداخل الطفل الصغير، وتصوير الواقع له بجوانبه المتعددة المعقدة المختلفة والمتنوعة.
بدأت بسماع هذه الأحاديث مبكراً، ومع مرور السنين، بدأت أتفهم مكنون تلك الأحاديث. كانت يقظتي مبكرة ومحتشدة على إرهاصات ما يحصل حولي من أحداث سياسية وصدامات كثيرة تقافزت مع الأيام، رسخت في نفسي فرط عشق زائد بمسقط رأسي، كما نسجت علاقات حميمية بكل ما يتصل ببلدي على إيقاع مؤثرات وانفعالات مفعمة بالأحلام والتأمل.
مع الأيام، استوعبت مكانة قريب أمي «أبو كمال» في ثورة «36»، بعد أن قرأت الكثير عن مسيرته النضالية على صفحات المجلات والجرائد، تعرفت على حقائق هامة عنه كقائد تاريخي كبير تعج بها كتب التاريخ.. أضربت القرى والمدن الفلسطينية يوم استشهاده ورفعت الأعلام السوداء.
قرأت في كتب التاريخ أنَّ أحد الخونة المنضمين إلى «فصائل السلام» ساعد القوات البريطانية على الظفر بقريب أمي، وهي الفصائل العميلة التي كان وراءَها سيئ الذكر فخري النشاشيبي الذي كان يتعاون مع البريطانيين كعميل رخيص لهم ضد الثورة، هو نفسه الذي جلس أيضاً مع عمه راغب النشاشيبي بجانب بلفور ساعة افتتاح الجامعة العبرية في القدس في عشرينيات القرن الماضي.. لاحقت الثورة فخري النشاشيبي بعد أنْ حكمت عليه بالإعدام، وتم قتله بعد عامين في بغداد وألقي كأمثاله من العملاء في مزابل التاريخ.
***
شاءت المصادفات أنْ أمر قبل أعوام في شارع يتفرع من الدوار السادس في عمان باتجاه حي الصويفية أحد أحياء عمان الحديثة، وجدت نفسي فجأة أمام شارع كبير يحمل اسم «الشهيد عبد الرحيم الحاج محمد «أبو كمال»، يمتد من أعلى نقطة في حي الصويفية على مقربة من الدوار السادس إلى أدنى نقطة من هذا الحي عند شارع الوكالات.
كلما أمر من هذا الشارع أتذكر أحاديث أمي عن قريبها، التي كانت تحدثني بها في عز اليفاعة، في أيام خوال قبل سـنوات طويلة، في لحظات عشتها معها في ذاك الزمن البعيد.