كتاب " علم الأسلوب - مدخل ومبادئ " ، تأليف د. شكري عياد ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب علم الأسلوب - مدخل ومبادئ
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

علم الأسلوب - مدخل ومبادئ
من الواضح أننا لا نستطيع أن نتكلم عن الأسلوب كلامًا مستقيمًا، يتجاوز حدود الانطباعات الجزئية أو الوقتية، ما لم نحدد مفهومنا للأفكار التي توجد في الأدب أو لا توجد فيه. وينبغي لنا عندما نحاول ذلك ألا ننسى أن هذا "الأدب" الذي نتحدث عنه ليس شيئًا مجردًا، لكنه سلاسل من الأصوات التي نسمعها بآذاننا، أو تتردد في حسِّنا السمعي الداخلي إذا كنا قد تعودنا أن نقرأ قراءة صامتة.
وللعقاد مقالان عن "الأسلوب" في كتابه "مراجعات في الآداب والفنون" ناقش في أوّلهما رأيًا للكاتب الفرنسي أناتول فرانس ذهب فيه ـ كما يقول العقاد ـ إلى أن الأسلوب الأمثل في الأدب هو الأسلوب السهل الذي لا يكدّ ذهن القارئ، "فللعلم حق الانتباه والتأمل علينا وليس للفنون ذلك الحق لأنها بطبيعتها تسر ولا تفيد، ووظيفتها أن تعجب ولا وظيفة لها غير ذلك. فيجب أن تكون جذابة بغير شرط". يناقش العقاد رأي أناتول فرانس ـ ولعله صورة مبالغ فيها القول بأن الابتكار الأدبي لا شأن له بالموضوعات أو الأفكارـ معلقًا عليه تعليقًا طويلا بقلمه الجدل الساخر. ففي الكون أسرار لا يسهُل التأدي إليها، وللنفس أغوار لا تطفو على وجه الحروف الأبجدية ولا تطير على ألسنة الشعراء والقصّاص، وللجمال معان محجبة لا تبرز للناس في ثياب الحمام في كل حين. والجمال في الفنون سهل مُعْجِبٌ لمن يقدرونه ويحبونه ويستعدون له استعداده ويبذلون فيه ثمنه. "وإنما تُمتدح السهولة في الأدب ثم تدل على النبوغ والقدرة إذا أدى بها الأديب المعاني التي يؤديها غيره بمشقة واعتساف". وما هذه "المعاني" التي يؤديها الأدب؟ يستشهد العقاد بأبيات لكثَيِّر عزة ومقطوعة للعتابي مبينًا ما في معانيهما من عُلقة شديدة بالنفس، يحسبها بعض الناس حلاوة في الألفاظ، ويخلص من ذلك إلى أن الصور الخيالية والمعاني الذهنية هي الأصل في جمال الأساليب في الأدب والفنون".
فالعقاد يقرر بوضوح أن الأفكار في الأدب هي أفكار من نوع مخصوص، ثم لا ينسى أن هذه الأفكار تنتقل بواسطة اللغة. ولكنه لا يسأل "كيف" تنتقل، بل يكتفي بالقول إن "الصور الخيالية والمعاني الذهنية" (أي الأفكار الأدبية) هي الأصل في جمال الأساليب. ولو كان مجرد حصول "للصور الخيالية والمعاني الذهنية" للكاتب أو الشاعر كافيًا لأن يكتب أدبًا عظيمًا لكان الإبداع عملية سهلة حقا، مع أننا نعلم أن القراءة نفسها تتطلب جهدًا وتركيزًا حتى نُحصّل تلك الصور الخيالية والمعاني الذهنية.
والمقال الثاني للعقاد يعالج قضية الأسلوب من الناحية التي تركها معلَّقة في المقال الأول. فإذا كان قد أدار المقال الأول على مناقشة رأي أناتول فرانس في الأدب السهل، وتطرق من ذلك إلى بحث طبيعة المعاني الأدبية، فإنه في هذا المقال الثاني يناقش آراء المتشددين في اللغة، الذين يعيبون على العقاد وزمرته أنهم يكتبون بأسلوب "إفرنجي"، فيفسدون بلاغة العربية (ماذا كانوا يقولون لو قرؤوا ما يكتبه الشعراء والكتَّاب في هذه الأيام!) وهو يرد اعتراضاتهم واحدًا واحدًا. فإذا كان غرضهم العودة إلى أسلوب العرب الجاهليين والمخضرمين في شعرهم ونثرهم فإن هؤلاء لم يخلفوا لنا نثرًا مكتوبًا، أما قصائدهم فليست بالنموذج الذي يقتدَى به في النظم (لأنها في الغالب أبيات مبعثرة تجمعها قافية واحدة يخرج فيها الشاعر من المعنى ثم يعود إليه ثم يخرج منه على غير وتيرة معروفة ولا ترتيب مقبول).
ويقف العقاد وقفة أكثر احترامًا عند فكرة الملكة اللغوية التي أخذها عن ابن خلدون. ولكنه يرى أن من مزايا هذه المَلكة ما يتغير بتغير العصور والأعراق، "وإنما الشأن للعادة في استحسان المزايا اللغوية التي من هذا القبيل، فإذا تغيرت العادة تغيرت معها أسباب الاستحسان". "ومن مزايا المَلكة العربية ما يحسُن في الذوق لأنه يفيد الكلام قوة ووضوحا ويزيد المعاني صقلا وبيانا ويعصم اللسان من الإسفاف والركاكة ويمده بذخيرة من أساليب التعبير ينفق منها في النظم والكتابة. فهذه المزايا هي التي نحتفظ بها ونتوسع فيها ونضيف إليها ما يوائمها ويتمشى معها من مزايا اللغات الأخرى، ونتصرف فيها تصرف صاحب الدار في داره، فلا نقف حيالها مقيَّدين مأسورين كأننا نترجم غير أنفسنا ونلفظ بغير ألسنتنا ونفكر بغير عقولنا التي ركبها الله في رؤوسنا، وما من شرط في كل ذلك غير المعرفة والإحسان".
ولا شك أن "المعرفة والإحسان" شرط في كل عمل جيد، ولكنك إذا أوصيت صانعًا بأن يأخذ في أعمال صنعته بالمعرفة والإحسان فما أوصيته بشيء نافع: لأنه إما أن يكون ذا معرفة وإحسان فلا حاجة به إلى نصيحتك، وإما أن يكون جاهلًا بهما فتكون قد تركته في جهالة وولَّيته ظهرك لتقطع يده سكين أو يصعقه تيار كهربي. وهذا الذي ذكره العقاد عما يحسُن أن نحتفظ به من لغة العرب وما يحسن أن نستلحقه من اللغات الأخرى لا يفيد معرفة ولا إحسانا. فمن قال إن "القوة والوضوح والصقل والبيان" (إذا فرض أننا اتفقنا على معاني هذه الألفاظ) شروط لازمة لكل عمل أدبي جيد؟ وبمَ يقاس "الإسفاف والركاكة" إلا بالفصاحة التي لا ندري لها تعريفًا سوى تعريف البلاغيين المتقدمين أنها "ما كان استعمال العرب الأقحاح لها أكثر"؟ إن القاضي عليَّ بن عبد العزيز الجرجاني في القرن الرابع الهجري كان أكثر تحررًا من العقاد في القرن الرابع عشر (وهو المتحرر الذي يرد على الجامدين!) حين رد اتهام اللغويين المتشددين في أيامه وقبل أيامه لشعر المحدثين بما يشبه الإسفاف والركاكة، فقرر أن شعرهم لا ينبغي أن يقاس بشعر القدماء، بل يُنظر إليه في ذاته ويقاس بمقياس عصره، وهو في ذاته جميل، وهو ألْيق بعصره من شعر القدماء.
وأما تلك الذخيرة من أساليب التعبير التي ينفق منها الشاعر أو الكاتب في النظم أو الكتابة، فما أدرانا أنها لا تكون كتلك الصيغ المحفوظة التي قضت على مستقبل توفيق الحكيم ككاتب فرنسي؟