You are here

قراءة كتاب علم الأسلوب - مدخل ومبادئ

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
علم الأسلوب - مدخل ومبادئ

علم الأسلوب - مدخل ومبادئ

كتاب " علم الأسلوب - مدخل ومبادئ " ، تأليف د. شكري عياد ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 10

هل يمكن أن يقوم على هذين المبدأين مسعى جديد في الدراسات الأدبية، يخلِّصهما من غموض الانطباعات الذاتية للنقاد، ولعله يساعد، من ثمة، على إرساء أساس جديد للتاريخ الأدبي، فلا يعود حشدًا لمعلومات غير متجانسة عن التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي؟

قبل أن نناقش هاتين المسألتين، يحسن بنا أن نوضح بأمثلة قليلة ما نعنيه بالاختيارات والانحرافات في اللغة الأدبية.

استمع إلى هذين البيتين لمهيار الديلمي:

يا نسيم الصبح من كاظمة

شد ما هجت الجوى والبُرَحا!

الصبا، إن كان لا بد الصبا

إنها كانت لقلبي أروحــا!

ليس في هذين البيتين معنى طريف، بل إن المعنى فيهما ليس إلا هيكلا هزيلا لحمل الألفاظ، لكن فيهما حنينا غامضا يصدر ـ في أغلب الظن ـ عن جرس الحروف.

ثم استمع إلى هذا البيت لامرئ القيس يصف فرسه:

على الذّبل جيّاش كأن اهتزامه

إذا جاش فيه حَمْيُهُ غَلْيَ مرْجَلِ!

تجد فيه كلمتين تحكيان صوتين: "جيّاش" وقد كررت في الفعل "جاش" و"اهتزام". وقد وضعت هذه الكلمات الثلاث في إطار من الكلمات يحكي بمجموعة تردد أنفاس الفرس، فيشعرك بروعة الإعجاب، ولا سيما إذا تمثلت بخيالك قدرًا ضخمًا يغلي فيه الماء فينبعث منه نشيش وبخار.

ثم استمع إلى هذا البيت لأبي ذؤيب الهذلي، وهو مطلع قصيدة يرثي بها أبناءه الخمسة وقد ماتوا في يوم واحد:

أمن المنون وريبها تتوجّع؟

والدهر ليس بمعتب من يجزع!

وتأمل هذا الاستفهام الغريب في الشطر الأول وما حفل به من المشاعر المتناقضة: هل ينكر الشاعر على نفسه أن يتوجع من الموت؟ وأي فجيعة أشد من فجيعة الموت؟ ولكنه يذكِّر نفسه بأن الجزع لا يجدي، فإذا غضب فإن الدهر لن يترضاه، لأن الذاهبين لن يعودوا. لقد بلغ الحزن أقصى مداه، فتحول إلى استسلام.

وانتبه إلى تقديم الجار والمجرور "من المنون" على بقية أجزاء الجملة الاستفهامية. ويقول البلاغيون إن التقديم في مثل هذه الحالة يفيد القصر، أو إن المستفهَم عنه هو ما تلا همزة الاستفهام. فكأن موضع تساؤله ليس التوجع في ذاته، بل التوجع من نزول الموت لا من أي شيء آخر. وهذا يجعل الاستفهام أشد غرابة، فليس ثمة فجيعة أشد من الموت المفاجئ، فما بالك إذا كانت الفجيعة مضاعفة؟ وتقول لنا البلاغة أيضًا إن الاستفهام هنا قد خرج عن معناه، وتذكر معاني عدة يخرج إليها الاستفهام، لعل أقربها إلى مناسبة هذا البيت وسياقه هو التقرير؟ أو الإنكار؟ أو التعجب؟ ولكننا في الحقيقة لا نستطيع أن نطمئن إلى معنى واحد من هذه المعاني الثلاثة، ولعلها جميعًا لا تفي بوصف الحالة الوجدانية المعقدة التي عبرت عنها الجملة الاستفهامية في البيت.

مثل هذه الطريقة في النقد ستبتعد بالضرورة عن الحكم بالجودة أو الرداءة، وهو ما يتصوره الكثيرون من دارسي الأدب على أنه وظيفة النقد الوحيدة أو الأساسية. فإذا كان عمل الناقد الأسلوبي هو تبين الارتباط بين التعبير والشعور، فيجب أن يكون قادرًا على الاستجابة للقطعة الأدبية التي يدرسها، وإلا فإنها ستظل بالنسبة له حروفًا ميتة. لهذا يصرح بعض علماء الأسلوب بأن الناقد الأسلوبي لا يمكن أن يدرس عملا لا يتذوقه. وإذا بدا أن هذه الخاصية للنقد الأسلوبي تضيِّق عمل الناقد فلا شك أنها تزيده عمقًا وصدقًا. ومع ذلك فإن الزعم بأن تعاطف الناقد مع العمل الذي ينقده يضيِّق مجال عمله زعم غير صحيح. فالناقد الواسع الأفق يتذوق أعمالا مختلفة الاتجاهات والأشكال، وإذا كان العمل أضعف من أن يثير اهتمامه، فمعنى ذلك أنه لا يستحق النقد. فكل نقد جاد ـ لا النقد الأسلوبي فحسب ـ ينطوي على حكم ضمني بأن العمل المنقود يستحق القراءة. والفرق بين الناقد الأسلوبي والناقد الانطباعي هو أن الأول أكثر موضوعية، لأنه ينطلق من تحليل للنص المكتوب، قائم على مبادئ علمية، في حين أن الثاني ينطلق من مشاعره الخاصة إزاء العمل، وقد تعكس هذه المشاعر صورة صادقة للعمل، ولكنها في كثير من الأحيان تكون بعيدة عنه. أما الاتجاهات "الموضوعية" الحديثة في النقد الأدبي، غير الاتجاه الأسلوبي، فإنها لم تستطع حتى الآن أن تحدد مفاهيم خاصة أو لغة علمية اصطلاحية خاصة للنقد الأدبي، ومن ثم غدت أشبه بعناصر لم يتم نضجها معا في مزيج مستمد من علم النفس تارة ومن علم الاجتماع أو علم الأنثروبولوجيا تارة أخرى (بمختلف مدارسها). ولعل هذا هو ما أغرى بعض علماء الأسلوب ـ مثل رومان جاكوبسون ـ بأن يتحدثوا عن النقد الأدبي كما لو كان شيئا من مخلَّفات الماضي.

على أن النقد الأسلوبي لا يمكنه أن يستوفي كل جوانب العمل الأدبي إلا إذا هشَّم أطرافه حتى تتسع له طاقة الدرس الأسلوبي، أو مط الدرس الأسلوبي فوق طاقته ليتسع للعمل الأدبي بكل جوانبه. ولقد كان كرسّو على حق في تقريره أن دراسة العمل الأدبي لا يمكن أن تقتصر على دراسة عبارته اللغوية. ولكننا لا نقبل ذلك التمييز المضحك بين الدراسة الأسلوبية ودراسة الأسلوب. ليكتب من شاء من النقاد والأدباء وغيرهم عن "الأسلوب" بأي معنى يشاؤون (وقد مرت بنا بعض هذه المعاني في الفصل الأول) فلا حجر على أحد في ما يكتب أو يقول، واللغة لا تنظم بقوانين تفرضها سلطة غير سلطة المتعاملين بها. ولكننا نرى أن كلمة "الأسلوب" إذا تجاوزت معنى "الاستعمال الأدبي الخاص للغة" لم تعد لها قيمة كاصطلاح علمي مفيد. فالجوانب التي ذكرها كرسّو وغيرها أيضًا، ونعني على الخصوص تلك المسائل التي تتعلق بالأنواع الأدبية ـ موضوعات مشروعة وضرورية للنقد الأدبي، إلا أن اعتبارها دراسات في "الأسلوب" هو نوع من خلط المفاهيم. وأساس التمييز واضح عندنا بدرجة كافية. فهناك عناصر في الأدب تتجاوز الدلالات اللغوية المباشرة وغير المباشرة (ومن ثَم يمكن عرضها بصور مختلفة، مثل الشخصية الروائية أو التمثيلية، وزاوية الرؤية في العمل الروائي، وعلاقة الزمن الروائي بالزمن الخارجي، وطبيعة الموضوع وطبيعة "الأنا" في القصيدة الغنائية... إلخ). وهناك علاقات تربط العمل الأدبي بموقف إنساني له جذوره في الشخصية أو في المجتمع. وهذه كلها مسائل لا يمكن بحثها بالمنهج الأسلوبي.

Pages