كتاب " علم الأسلوب - مدخل ومبادئ " ، تأليف د. شكري عياد ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب علم الأسلوب - مدخل ومبادئ
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

علم الأسلوب - مدخل ومبادئ
هذه الاختلافات كلها ـ وغيرها مما تصعب الإحاطة به ـ تشترك في تكوين الموقف الذي يحاول القائل أن يراعيه في ما يختاره من طرق التعبير. فالفرد "القائل" يريد بقوله أن يوصِّل إلى شخص آخر أو إلى جماعة من الناس معنى ما، ومن ثم فعليه أن يجعل هذا المعنى مفهوما لهم، وأن يستميلهم إلى قبوله. ولهذا فهو يتخير طريقة التعبير المناسبة للموقف. ومعنى ذلك أنه يدخل في اعتباره "دلالات" كثيرة، فوق الدلالة المباشرة أو الأصلية للعبارة: دلالات تتمثل في طريقة النطق، واختيار الكلمات والتراكيب، دلالات يأنس إليها السامعون، ويفتقدونها إذا سيق لهم القول عارياً منها، مقتصرًا على أداء المعنى المجرد، أو محملًا بدلالات أخرى مناقضة للموقف. ولك أن تتخيل ما يمكن أن يحدث مثلا لو كلَّمت أباك أو رئيسك في العمل بنفس الطريقة التي تكلم بها أخاك الأصغر، ولو كان المعنى واحدًا، كطلب شراء كتاب معين مثلا.
وإليك مثالا آخر من ثلاث عبارات شائعة الاستعمال جدًّا: أنت تقول في بعض المواقف، حين يطلب منك القيام بعمل ما: "لا يمكن". وتقول في مواقف أخرى: "لا أقدر" أو "لا أستطيع". المعنى الأساسي واحد، ولكنك في الحالة الأولى ترفض رفضًا جازمًا، فأنت لا تشعر بأي التزام نحو الطالب، وتريد أن تصده عن الإلحاح في الطلب. وفي الحالة الثانية تلمِّح إلى أنك كنت تود أن تجيبه إلى ما يطلب، ولكن ثمة موانع داخلية (نفسية) تجعل الأمر صعبًا عليك. أما في الحالة الثالثة فأنت تعتذر بأن ثمة عقبات خارجية تحول بينك وبين إنفاذ الأمر.
إن القائل يعتمد غالبًا على فطنته، وسليقته اللغوية، وخبرته الاجتماعية بما ينبغي أن يقال وما لا ينبغي أن يقال في المواقف المختلفة. ولكن علماء الأسلوب يحاولون أن يحددوا الخصائص المميزة لكل نوع من أنواع الاستعمالات اللغوية، ويربطوا بين هذه الخصائص أو السمات اللغوية ودلالاتها التي تتجاوز المعنى المجرد.
وهنا تفترق السبل بيننا ـ نحن دارسي الأدب ـ وبين اللغويين الخُلَّص. فهؤلاء يقررون أن القسم الأكبر من "الدلالات" التي تحدثنا عنها ذو طابع وجداني. أي أن القول ـ بجانب أدائه للمعنى ـ ينقل إلى متلقيه اتجاها شعوريا معينا: اتجاها نحو الرزانة أو الخفة، نحو الاسترضاء أو التحدي، نحو القبول أو الرفض، نحو تعظيم الأمر أو تهوينه...... إلخ. ولكن فريقًا منهم ـ مع اعترافهم بأن الأدب هو أغنى أشكال اللغة بهذه الدلالات الوجدانية ـ يفضلون، ولو مؤقتا، أن يبعدوه عن مجال علم الأسلوب، بحجة أن الشاعر أو الكاتب يستخدم هذه الدلالات الوجدانية استخدامًا مقصودًا لإحداث تأثير جمالي، أي أن التأثير الجمالي الذي يتوخاه الشاعر أو الكاتب يضاف إلى الدلالة الوجدانية ويخرجها عن طبيعتها التعبيرية الصرف.
لذلك يرى شارل بالي (1865 ـ 1947م) مؤسس علم الأسلوب الفرنسي (المدرسة الفرنسية في علم الأسلوب هي التي وضعت القواعد النظرية الأولى لهذا العلم). أنّ علم الأسلوب يجب ألا يبحث في كيفية استخدام الأدباء لهذه التأثيرات الوجدانية، فلا يسأل عن مدى مناسبتها للموقف الوجداني الذي يصوره الشاعر، أو للشخصية التي يقدمها الروائي أو الكاتب المسرحي. فمثل هذه الأسئلة خارجة عن عمل الدارس الأسلوبي، وينبغي أن تظل من اختصاص الناقد. الدارس الأسلوبي إذن ـ في رأي بالي ـ دارس لغوي محض، يدرس "الخامات" اللغوية من حيث دلالاتها الإضافية (وقد فصَّل بالي أنواع هذه الدلالات تفصيلا دقيقا) مهما تكن طبيعة النص الذي يدرسه، إن كان مأخوذا من الأدب أو العلم أو الإدارة أو شؤون الحياة العادية. والمسألة عنده مسألة منهج: فالعالم اللغوي يبحث عن قوانين لغوية تحكم عملية "الاختيار" التي يقوم بها أي شخص يستعمل اللغة، ولا يبحث عن القوانين الجمالية التي تخص الأدب دون غيره من الأغراض التي تستخدم فيها اللغة. ولا تزال هذه النظرة سائدة في أوساط اللغويين. لكن كرسّو ـ وهو أحد تلاميذ بالي ـ لا يقبل هذه التفرقة الحاسمة بين التعبيرية والتلقائية من ناحية، والجمالية والقصد من ناحية أخرى، منبهًا إلى أن التأثير الجمالي كثيرًا ما يراعَى في الاستعمالات العادية للغة، ما دام الغرض من هذه الاستعمالات دائمًا هو استمالة السامع إلى ما يقوله المتكلم؛ وأن "القصد" ينبغي أن يكون سببًا لتفضيل النصوص الأدبية على غيرها، وليس العكس؛ من حيث إن الاختيار ـ وهو موضوع علم الأسلوب ـ يكون مع القصد أظهر. ولكن الاختلاف بين كرسّو وأستاذه، أو بين المدارس المختلفة من الأسلوبيين اللغويين، لا يعدو درجة الاعتماد على النصوص الأدبية في استخلاص القوانين الأسلوبية. فبينما نرى فريقا منهم يفضل الابتعاد عن النصوص الأدبية، لأنها لا تقدم إليهم مواد بسيطة تظهر فيها هذه القوانين بغير تدخل قوانين من جنس آخر، نجد كرسو وآخرين يكادون يقتصرون عليها لسببين: أنها ميسورة، وأنها غنية. ولكن كرسو نفسه يفرق ـ كما فرق أستاذه ـ بين "الأسلوب" و"علم الأسلوب". فهو يقول إن في الأسلوب شيئًا يتجاوز واقعة التعبير. فمن ذا الذي يستطيع أن يدعي أنه عرف أسلوب فلوبير في "سلامبو" لأنه درس ـ بل تعمَّق ـ استخدامه للمفردات والصور، والمادة النحوية، وترتيب الكلمات والعبارات؟ إن الأسلوب أكثر من ذلك كله. فليس لنا الحق أن نستبعد منه كل الحياة الباطنية للعمل، منذ ولادته رؤيا غامضة ولكنها متميزة عن كل ما عداها، لا تزال تتشكل شيئًا فشيئًا، مكتسبة الوضوح والقالب، لتصبح الشيء الذي هو موضوع الكتابة(10).
ولا شك أن مثل هذا القول يعبر عن تواضع محمود من العالم اللغوي. ولكن النقاد الأسلوبيين لهم وجهة نظر أخرى، فهم يرون أن كل هذا الذي ذكره كرسّو عن الرؤيا أو أكثر منه، لا سبيل لنا إلى معرفته إلا من خلال النص المكتوب. وكل معلومة يأتي بها الناقد من خارج هذا النص لتوضيحه ـ سواء أكانت مستمدة من وقائع عامة معاصرة أم من أحداث خاصة ألمّت بالكاتب ـ لا تؤدي إلى اكتشاف الرؤيا إذا لم تكن هذه الرؤيا في النص نفسه.
وهكذا اقتحم مجال "علم الأسلوب" فريق من نقاد الأدب ـ يزدادون عددًا ونفوذًا كل يوم ـ حين وجدوا علماء اللغة قد وقفوا به عند حدود الوصف اللغوي البحت. وقد كانت مشكلة النقد الأدبي ـ ولا تزال ـ وراء هذه الحدود.
فهل يعني هذا أن "علم الأسلوب" ـ كما يرى هؤلاء النقاد ـ ينبغي أن يحل محل النقد الأدبي أو تاريخ الأدب.
* * *