مملكة غاردينا وجدت ولم تزل في دنيانا المعاصرة. وهي نموذج واقعي يحاكي كثيراً من أنظمة ودول العالم الثالث.
قراءة كتاب غاردينيا
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 6
ومن عادة القوم أن يضعوا تحت الإبط الأيسر للمولود الجديد، إذا نجا من الموت بعد الوسمة الكاوية، حُجة مكتوباً فيها اسمه وجنسه ويوم مولده، والقبيلة التي ينتمي إليها، وطالعهُ بين النجوم. وتبقى هذه الحجة ملازمة للشخص حتى مماته، وتدفن معه. وهي بطاقة التعريف الوحيدة التي يحتاجها الإنسان طيلة حياته هناك. وعلى ما يبدو فإن عادة وضع الحجة تحت الإبط الأيسر هي ممارسة ابتدعها الحاميون منذ قديم الزمان. وتوارثها السكان جيلاً بعد جيل .
ويعيش أهل الغرابة على تربية الماشية وزراعة التمور والتجارة مع الممالك المحيطة. ويقتاتون على التمور والنباتات الصحراوية والحبوب الجافة وكل ما تحتويه الصحراء من غنم وماعز وجمال وجراد وسحالي وثعابين، وحتى العقارب. فقد تعلموا كيف ينزعون سُمها كي يبيعوه لغرباءَ بيض يقطعون البحار الشمالية الباردة كي يشتروا مثل هذه الأشياء الغريبة، ثم يشوون ما تبقى من لحمها على نار ٍهادئة!
ويبدأ الصبي رحلة المعاناة العظمى عندما يتم الثانية من عمره، ليذهب مع أبيه في رحلة البحث اليومي عن طعام للأسرة التي يعيلها الأب، فيراقب أباه كيف "...يجثو على ركبتيه، ويستند على راحتيه أمام عيني الثعبان المنتصب، ويهز رأسه بشكل لولبي، ويتمتم بكلمات غريبة كي يُسكن من روعه، ثم يفاجئ الثعبان بمسكه من عنقه ويشله بالكامل، ثم يضغط على نفسه حتى يُميته...".
فيتعلم الطفل مع مرور السنوات كيف يصيد ثعابين الصحراء القاتلة ويقطع رؤوسها، وشيّ لحمها وأكل جزءٍ منه، ويترك البقية لأفراد الأسرة من النساء والبنات الصغار اللواتي لم يبلغن بعد سن الحلم. وفي الخامسةِ من عمره يتعلم سلخ جلود الثعابين وتذوق دمائها، وكيف يصطادُ العقاربَ وهوامَ الأرض الأخرى!
كان الشيخُ أبيض اللون- مع أن معظم أقاربه كانوا من ذوي البشرة الحنطية - وكان فارع القامة جميل الوجه، وأديباً بليغاً. وقد حفظ الكتاب المقدس عن ظهر قلب، باللغتين السواحلية والآرامية. ولحكمته وطيبة قلبه اللتين تميز بهما، فقد حظي باحترام سادة القبائل المجاورة، وهي قبائل استقرت مع المكاسير في الجانب الغربي من صحراء الغرابة، وتحالفت معها. أما منافسو المكاسير من قبيلة السعدان وحلفائها فقد استقروا في الجانب الشرقي من الصحراء. وكانوا يضمرون عداوة عميقة للمكاسير وحلفائهم، بسبب المكانة المقدسة للأرض التي يحكمها المكاسير، وموقعها الجغرافي الهام القريب من المحيط. ولذلك اعتاد أهل المنطقة على تسميتها بالغرّابة الغربية والغرّابة الشرقية، أو غرّابة الإيمان وغرّابة الشيطان عند السخرية. ومع أن كافة القبائل التي تقطن الغرابة، بشقيها الشرقي والغربي، تنحدر من أصلٍ واحد، ويجمعها دينٌ واحد ولغة واحدة، إلا أن الخلافات بينها وصلت إلى حد المناحرة والاقتتال. وتركزت رغبة كل طرف في الاستيلاء على مُلك الآخر، بما فيها المراعي وواحات المياه.
بدا الشيخ محبطاً ومُنهك القوى، وعلى وجهه علامات الإعياء الشديد، إذ عاد لتوه من الجبّانة التي دُفن فيها أربعة من رفاقه الذين قضوا جوعاً وعطشاً وسط الصحراء الملتهبة. فقد تميزت هذه السنة بموجات الجراد القادمة من شمال وجنوب القارة. وكانت هذه المرة شرهة جداً إلى حدٍ دفعها لالتهام كل ما يقع تحت أنظارها من شجر وورق ونباتات خضراء ويابسة. وسُميت السنة "سنة الجراد الحالق"، من شدة فتك الجراد بالأرض وما عليها، وكثافة أعدادها في السماء، إلى حدٍ حجب ضوء الشمس لأيام عديدة، وكأن الشمسَ قد كـُسفت بأكثر من قمرٍ في آنٍ واحد.
وقد حدث أن ذهب رفاق الشيخ الأربعة في مهمةٍ لجلب الأعلاف لخيول حامية الغرابة الغربية، لكنهم صُعقوا لرؤية المستودعات خاوية على عروشها، وقد التهمَ الجرادُ كل المخزون الذي يلجأون إليه في مثل هذه الظروف، حتى أنهم لم يجدوا شيئاً يُطعمون به الجياد التي يمتطونها، فنفقت وهلكوا معها. وقد عثرعلى جثثهم بعض أفراد الحامية، وكانت الضباع تحوم حولها كي تلتهمها.