قراءة كتاب يوم غابت الشمس

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
يوم غابت الشمس

يوم غابت الشمس

رواية " يوم غابت الشمس"، هذه الرواية: على مشارف المدينة القديمة، وقفت طويلاً، وقفت أتأمل واسترجع بذاكرتي صور الماضي القريب لهذة المدينة التي أنهكتها الحوادث وأنهكها تطاول الزمان، بيوتاتها الفخمة هرمت وشاخت واستحال بعضها إلى خرائب.

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 8

تقع محلة تل قليعات على أعلى ربوة في مدينة الموصل تطل على الجهة الغربية لنهر دجلة، فتنحدر بذلك بيوتها على السفح المتدرج الى مختلف الجهات وتحصر تلك البيوت المشيدة من الحجارة والجص والمدعّمة بأقواس وقطع الفرش ذات النقوش الرائعة وأبوابها الخشبية ذات الألواح السميكة من خشب الجوز والصاج والمثبتة مع بعضها بمسامير حديدية ذات رؤوس قرصية كبيرة مدورة، تحصر بينها طرقات وأزقة ملتوية ومتعرجة، وابتداءاً من الجامع الأموي (16) بمنارتهِ قليلة الإرتفاع المتآكلة النهاية والرابضة على قمة التل تقريباً، تتشعب هذه الطرقات والأزقّة فينحدر بعضها الى النهر مباشرةً حتى يجتاز أبواب السور المؤدية إليه، بينما يسير طريق آخر منحدر نحو الجنوب وموازٍ للنهر تماماً حيث يصب في ساحة الميدان وباب الجسر الخشبي المنفذ الوحيد الذي يربط المدينة بالضفة الشرقية للنهر وينحدر طريق مماثل ولكن باتجاه معاكس نحو الشمال، فيؤدي الى فسحة واسعة من الأرض عند مرقد الإمام يحيى بن القاسم وبقايا قلعة باشطابيا. أما من جهة الغرب فينحدر الطريق المؤدي الى المكاوي ومن ثَمَّ إلى باب سنجار أقصى غرب المدينة، وتتفاوت هذه الطرقات في اطوالها إلا أنها تشترك في معظم صفاتها الأخرى فهي طرقات غير منتظمة ملتوية ومتعرجة تضيق في أماكن وتتسع في أماكن أخرى مغطاة بقطع القاردرم(17) وقد تصلبت تربتها من كثرة وطء أقدام الإنسان والحيوان على السواء، وبقيت بعض الصخور ناتئة هنا وهناك تشكل عثرات طبيعية للسالكين وتؤدي جميع هذه الطرقات إلى بقية محلات ومناطق وأسواق الموصل الأوطأ مستوى وتتوغل فيها فتشكل شرايين الحياة في الموصل القديمة.
* * *

أخذت الشمس المحتضرة تتلاشى تدريجياً خلف الأفق ولم يبقَ منها سوى أشعة برتقالية شاحبة كانت آخر ما قذفته فوق تل قليعات وفوق مآذن وقباب الجوامع المرتفعة. وهبَّ نسيم رطب من جهة النهر سرعان ما تشتَّتَ بين الأزقة والبيوت العالية واستطاع هذا النسيم المتلاشي ـ رغم ضعفه ـ أن يتسرب إلى سرداب عتيق في بيت ضخم عند تل قليعات فانسَلَّ عبر جلباب حقير إلى صدر حرتيش الجالس على سرير خشبي أسفل الشباك النصف الدائري الكبير والذي لم يعد يستقبل شيئاً من ضوء النهار الآفل إلا النزر القليل وبدت الوحشة والظلمة تلفع السرداب رويداً رويداً والفتى جالس مكانه وبيده فستان امرأة مدعوك على غير انتظام تارةً يدنيه من وجهه وتارة أخرى يضمُّه إلى صدره وغابت معالم الفستان والأواني والأدوات أمام ناظري الفتى وهو يتطلع عبر النافذة إلى غرفة مرتفعة حيث يقبع رجل كهل.
- أبي… أبي.
تنهد الفتى الأسيان.
وأضاءت شمعة الغرفة المرتفعة فسكبت جزءاً من نورها الشاحب على بقعة صغيرة أسفل الحوش، وزاد هذا الدفق في الضوء اصرار حرتيش على تقبل ظلام السرداب. هنا في هذا السرداب قضت المسكينة آخر أيامها، قضتها وسط العفونة والرطوبة والظلام بعيداً عن الناس وبعيداً عن زوجها القريب. آه كم كانت عيناها الشاحبتان تبحث عنك يا أبي. كم مرة نطقت باسمك، كم مرة سألتني عنك؟ ما لأبيك يجافينا هذه الأيام؟ أذكر أن هذا آخِرُ سؤال لها عنك. إنه لا يطيق أن يراك على هذه الحال، هذا كل ما كنت أستطيع أن أجيبها به. ماذا بوسعي أن أقول؟ أأقول لها أنك رجل وسواس متضعضع تخاف حتى الدودة إن لامست ثوبك أم أقول أنك رجل جبان ربما تخشى حتى الظلام أم أقول أنك تخاف حتى ذكر الموت أو المرض أو باب الوباء، وكأنك أنت الذي فتحته. إنه لا يطيق أن يراك على هذه الحال. عسى أن يكون جوابي هذا قد أراحك يا أمي العزيزة والويل لمن يسيء اليك بعد الآن. لن أسمح لمخلوق أن يسيء اليك حتى وإن كان أبي نفسه. حذار حذار أيها الوالد أن تطمئن لعيش بعد الآن. والدتي لا أحد يأخذ مكانها. وسوزان تلك المرأة السافلة أتراها عائدة اليك؟ سأكسر رجليها إن وضعتهما على طريقك مرة ثانية، لا بل سأكسر يديها ورجليها. لتبقى تلك المرأة الساقطة في مكانها. لتبقى هناك أبد الدهر ليعشعش القمل في رأسها ولتدعكه بالوحل إن شاءت.
- أحمد.
جاءه الصوت من الغرفة المرتفعة.
وصعد حرتيش الدرج ودفع الباب فأصبح وجهاً لوجه أمام أبيه المتربع على أريكة في أحدى جوانب الغرفة ورغم ضعف ضوء الشمعة استطاع أحمد أن يستبين التجعدات العديدة وقد حفرت وجه أبيه الذي بدا أكبر عمراً بكثير مما كان عليه قبل شهرين. إعتذر لوالده عندما طلب منه الجلوس وبقي واقفاً أمامه لا يتزعزع فسأله شاهين:
- لِمَ لا تغادر السرداب ففي البيت متسع من الغرف!؟
وأجاب الفتى بعدم اكتراث:
- إذا كان الأمر كذلك فَلِمَ تركت المسكينة تقضي حياتها فيه؟!
- أنا لم أكرهها على ذلك.
- لو شئت لأسكنتها غرفتك.

Pages