قراءة كتاب يوم غابت الشمس

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
يوم غابت الشمس

يوم غابت الشمس

رواية " يوم غابت الشمس"، هذه الرواية: على مشارف المدينة القديمة، وقفت طويلاً، وقفت أتأمل واسترجع بذاكرتي صور الماضي القريب لهذة المدينة التي أنهكتها الحوادث وأنهكها تطاول الزمان، بيوتاتها الفخمة هرمت وشاخت واستحال بعضها إلى خرائب.

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 10

- ولكنك لا تدري أي خطر يكمن فيها.
- لا خطر ولا هُم يحزنون.
وأدرك شاهين مريودة أن انتزاع صخرة من جبل أسهل عليه من إنتزاع كلمة من فم ابنه وأخذ يقضم شفته السفلى بأطراف ثناياه العليا لكنه تمالك نفسه وأضاف:
- ألا ترى أنها تعج بالجراثيم؟! ستصيبنا العدوى لا محالة.
- لن يمس أحد أي شيء منها وإن كان ثمة عدوى فلتصبني أولا.
وصرخ الرجل متأوّهاً وأحمرَّ وجهه غضباً، ورفس بقدمه صينية الطعام فانقلبت مقرقعة وتطايرت الأواني في كل اتجاه، وأنسكب الشاي على صدر أحمد، فانتفض قائماً مدهوشاً وهو يكنس ملابسه بيديه بخفة شديدة وعندما رفع طرفه ازاء أبيه، راعه منظر الرجل الواقف أمامه وهو يزفر ويصكُّ أسنانه وقبل أن يتفوُّه أحمد بشيء قفز شاهين مريودة صوب الكندور، وتناول عصاه من فوقه وعاد بها ملوِّحاً وهو يصرخ:-
- ألا تسمع كلامي مرة واحدة؟! وإذا كنتُ لم أُحسِنْ تربيتك فستربيك هذه …
وعندما رفع عصاه ليهوي بها على ابنه كانت ساقا الفتى قد ساقتاهُ خارج المنزل فانطلق مهرولاً على غير هدىً. ولم يستعد صوابه إلا بعد دقائق ليجد نفسه منحدراً صوب الميدان، صوب أشد الأمكنة إزدحاماً بالناس وبالدكاكين وبأصحاب الحِرَفْ. فتسمَّر مكانه. ما عساه أن يفعل؟ وضع يده على بقعة الشاي وانعطف شمالاً فإذا به يسير وراء شيخ كردي وقد أسدل على ظهره المنحني صُرّة قماش كبيرة مملوءة بالتبغ ومحتضناً بيده اليسرى حزمة من الغليونات، يسير الهوينا مطأطيء الرأس. وبطرف خفي نظر أحمد اليه فصادف وجهاً ملوَّحاً مجعداً منخفض ما بين الفكين وبدا هذا الأنخفاض واضحاً رغم اللحية الخفيفة النابتة على ذلك الوجه الهزيل.
ما كان أحمد ليواكب سير الرجل فتخطاه على عجل مُيمِّماً وجهه صوب دجلة ليجد نفسه بعد دقائق جالساً على صخرة صغيرة على ضفة النهر. غسل بقعة الشاي على عجل. واستقرت عيناه على سطح الماء المنبسط أمامه وهو ينساب متهادياً فوق الأرض الحصباء المنبسطة فتلثم حافته الغربية الشاطيء الرملي الممتد أسفل السور الشامخ بقلاعه وتحصيناته ـ والتي بدأ يتآكل الكثير منها– لتتخذ بعض الطيور أعشاشاً لها هناك. ولأول مرة في حياته أحس بأسى كبير يعتصره، فتى تعيس لا أحد له، وجد نفسه وحيداً على حين غرّة على ضفة النهر التي تقادم عليها الدهر والتي تعج بحركة السقائين ينقلون الماء أو يَرِدون حيواناتهم إليه.
نظر شمالاً فإذا بكَلَك(19) عائم، هائم بمن فيه. ينحدر بهدوء في وسط النهر بدأ يلاحقه بنظراته الحزينة حتى اختفى صوب الجنوب. ماذا لو كان مستلقياً فوق الكلك وعيناه السوداوان تحتضنان الفضاء الواسع، وتتيهان في دنيا الله ثم يغفو ليستيقظ في مكان آخر حيث الراحة والأمان.
* * *
وغابت الشمس ـ بعد نهار كامل من الجوع والحيرة والضعف ـ واحْلولَكَتْ زرقة المياه وأطبق السور على المدينة محتضناً أهلها الآمنين. وهبت ريح قوية من جهة الغابة حاملة معها عواء ذئب فعصفت بأغصان شجر الطرفاء(20) جارفة مخلفات الشاطيء ولم تفلح يدا أحمد بصد نثار التربة الندية عن وجهه إلا قليلاً. وكان البرد قد هبط مع هبوط الظلام فتراجعت الحيوانات إلى جحورها محتمية بها، وعَمَّ سكون شامل الشاطيء تتخلَّله أصوات الصراصير من كل مكان. وتوارى القمر غير المكتمل خلف غيمة عابرة. وأطبقت على المكان وحشة مقيتة جعلت أحمد يمدَّ الخطى بحثاً عن مأوى له وطالت عيناه كل شيء وغدا ذلك السور المحاذي للنهر ـ والذي أظلهُ طوال النهار ـ كياناً أسود رابضاً على الأرض ومن خلفه مباشرةً برز بنيان قره سراي ومرقد يحيى بن القاسم هيكلين شامخين نابعين من وسط الظلام.

Pages