You are here

قراءة كتاب البردويل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
البردويل

البردويل

كتاب " البردويل " ، تأليف عبدالله هلال ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 3

قام وعباس مودّعين لأصدقاء طفولته في الجمّارة، أكد له أحمد النيّا أنه يشتاق إليه وسيقف إلى جانبه إن لزم الأمر، وشكره عبد الله المطرود على الزيارة وقد بدت على وجهه غلالة من التأثر والحنين الصادق. جمعه الرحمو كان أقلهم كلاماً، وأكثرهم تحديداً للمساعدة التي يمكن أن يقدمها، ألمح أنّ بإمكانه تسلّم الأغنام ورعايتها في حال اضطر أحمد لمغادرة الزعفرانة. كلهم يعرف أنَّ أحمد إذا قال فعل، وقد قال إنه عاقد العزم على الانتقام لوالدته، ولزوجه، سواءً وجد منْ يساعده في ذلك أم لا.
في الطريق إلى منزل والده، وقف فوق المكان الذي تردّتْ فيه أمه وهي تدفع البردويل عنه، شخصت أمام عينيه ثانية، وهي مغطاة بالدماء، كما شخص أمام عينيه منظر الثدي الذي رضع حليبه لأربع سنوات. كان يجتر دائماً تكرار والدته أمامه أنه رضع ضعف ما رضع أطفال حيّ المنقّى. لم تكن تتباهى، أو تمنّ عليه، أو تردد جملة من غير ضرورة، كانت فقط تجيب منْ تبدي إعجابها بفتوته ورجولته، كانت تتلمظ طعم الجملة فهي الأم التي قدّمت لابنها ضعف ما قدمت الأخريات.
غادر مكان فاجعته، ولدى وصوله إلى باب منزل والده صاح بشقيقه عمر من خارج المنزل أنه قد يتأخر لأنه سيذهب لزيارة قبر أمه، رافقه عمر، ودخل عباس إلى المنزل. كانت ندوة بادية الخوف إذ إن ذهاب أحمد وعمر إلى المقبرة حدثٌ قد يجرُّ عمر للوقوف مع شقيقه مرغماً في حال قرر موعد تنفيذ ثأره، بقيت واقفة قرب باب المنزل الخارجي حتى غابا عن نظرها.
أكد أحمد لشقيقه أنه قادر على التصدي للبردويل دون مساعدة أحد، بالإضافة إلى أنَّ عمر ملاصق للبردويل في بلدٍ يجمعهما معاً، بينما هو طيّار، إن اضطر لمغادرة الزعفرانة ليس هناك ما يربطه بها سوى حفنة من الأغنام يمكنه أن يُودعها أحد أصدقائه. كان يساعد شقيقه على إيجاد مسوّغ لركونه وخضوعه إذ لا فائدة من إحراجه ما دام هو واثقاً بعدم قدرته على الاستجابة. ندوه زوج عمر ليست من عائلتهم، همها حصاد الزرع، وتأمين مستقبل أولادها، لا يعنيها ثأرهم عند البردويل في كثير أو قليل، وهي تملك لساناً ساحراً يقنع عمر بما تريد. استجرّ عمر لإخباره ببعض ما دار بينه وبين ندوة، هي تعتقد أنّ الثأر عادة قديمة، وأن الإنسان الناجح هو منْ يسعى لتعليم أبنائه، ويسهر على نجاحهم، وليس ذاك الذي ينتقع في السجن لسنوات مقابل الأخذ بثأره بينما أولاده يكبرون على أخلاق الشارع الذي قد يجعل منهم لصوصاً أو مجرمين.
عاد مع عمر إلى البيت بعد زيارة قبر والدتهما. بعد تناول طعام الغداء، والحديث المرح المتصنع، قام وعباس عائدين إلى الزعفرانة عصر ذلك النهار.
أراد أن يبادر للفعل هذا الليل، لكنّه شاهد بوضوح ثوب الغيم المنكشف عن ساقٍ حمراء كبقايا جمرٍ منذراً بحلول الصقيع هذا المساء. قرر أن يؤجل تنفيذ مخططه خوفاً مما قد يتعرض له من برودة قاتله وهو ينتظر وصول البردويل إلى منزله ليلاً. لا بد أن تكون المواجهة ليلاً إذ لا يمكن أن يواجهه في النهار ورجاله مجتمعون حوله. لقد استطاع البردويل أن يشكّل طوق حماية من رجال ونساء، بعضهم على الأقل مأجور بالمال، إنْ لم يكن أكثرهم، بينما هو لم يستطع تجييش أحد يعاضده في معركته. رغم ذلك وما دام عقد العزم على الانتقام من البردويل قبل موسم البذار لهذا العام، فعليه أن ينفذ عمله بما يملك من إمكانيات، وهي شجاعته وتصميمه فقط.
استرجع في ذاكرته، كيف كان في الجمّارة فتىً، ثم شاباً... كانت الفتيات يتهاطلن عليه لفتوته وشجاعته التي أقرّ بها الجميع. كان المعطي لا يبخل عليه بمصروف يضاهي مصروف أولاد الأغنياء، وكان يقتسم حلواه مع رفاقه دون أن يطلب ثمناً، كان سخيّاً ولم يمنّ على أحد بعطية.
تذكر كيف كان والبردويل يقضيان ساعات لهوهما بكل انسجام، وكيف تبدل ما بينهما إلى عداء، يبدو أنه لن ينتهي إلا بالقتل ؟!... أو بالقتل!
لقد استغل البردويل حب أحمد لسعاد، وقد انتقاها من طاقةٍ من ورد الجمّارة، واستغل أيضاً أخلاق صديقه الذي خبره. تأكد البردويل أن أحمد لن يقبل بغير سعاد من نساء الدنيا، فاوضه؛ أن لا يتعجل في طلب إرث سعاد، لم يدرك أحمد ساعتها أنَ مفاوضه كان ينوي ليس تأخير الميراث ولكن الاستيلاء عليه. أقرَّ مرّة في حديث مع عباس الكوري أنه هو المسؤول عن ضياع ميراث سعاد. لقد كان غرّاً قليل الخبرة ولو أنه كان قد عرف الدنيا وأهلها حينها كما يعرفهم الآن لما كان وافق على كثير مما وافق عليه في مفاوضات مع آخرين غير البردويل فمع البردويل من بابٍ أولى.
ترك الجمّارة وقلبه ينعصر على ذكريات فيها لا تنسى، ابنة خاله، وغزلهما الصادق العفوي على باب منزله وهي تحمل لهم طبقاً من الطعام في تكرار شبه يومي في شهر رمضان، وفي أيام متباعدة في باقي الأشهر. تذكَّر مرة عندما اعتذرت لأنها لا تحمل سوى طبق متواضع من الحساء، لقد أرادت أن تراه كل يوم كما كان هو ينتظرها كل يوم.
تقلصت صورة ذكرياته وترهلت فجأة كضوء خفّ بريقه وغمّ حتى كاد أن ينطفئ، تذكر أنه مقدم على مواجهة خصم عنيد، ذاك التنين القابع في الجمّارة، كيف استرسل في ذكرى لقاءاته مع ابنة خاله ولم يتذكر عمتها التي كانت سبب مجيء ابنة أخيها المتكرر إلى منزله. العمة التي ماتت ولم أتمكن حتى الساعة من الانتقام لها، ولم أتمكن من استرداد حق سعاد زوجي وأنا المعني بالدفاع عنها وعن حقوقها.
وقفت الشاحنة الصغيره التي نقلتهما إلى الزعفرانة قرب منزله ونزلا، سار خطوات مع عباس مودعاً، توقف عباس، كأنما هناك ما يثقل عليه، لماذا ذهبنا إلى الجمّارة إذاً؟ لم نستطع تجييش أحد لمؤازرتك. ردّ عليه بثقة وبتصميم، لن أتخلى عن الأرض ولو اضطررت لأن أواجه مائة بردويل وحيداً!!
ابتعد عباس وهو يلوك قوة شكيمة صديقه، هذا الذي لم يطلب، ولم يلمْ، ولم يتشدق بأنه الوحيد الذي تصدى للبردويل الجبار!
صعد إلى السطح ليتأكد من استقرار الطقس في ليلة تشرينية حلّ فيها الصقيع مبكراً. الصقيع يجيء عادة في موسم البذار في تشرين، لكن لماذا الليلة بالذات؟ لو تأخر ليومٍ ثانٍ، هل هذا مؤشر يشير إلى تأجيل أو إلغاء قراري؟ اقشعرَّ من الفكرة، لا يمكن إلغاء قراري، وإن لا مانع من تأخيره إلى أن ينتهي الصقيع الذي في العادة يستمر ثلاثة أيام أو أسبوعاً على الأكثر، لقد انتظرت عشر سنين ولا بأس من الانتظار بضعة أيام إضافية.
سمع أصوات الصبية وهم يلعبون بمرح أخاذ أعاده إلى تساؤله عن ذكريات المكان التي يتفرد بها كل مخلوق فالمنزل والحي والبلدة تلتصق بذاكرة أبنائها بلصاق لا ينفك.

Pages