كتاب " البردويل " ، تأليف عبدالله هلال ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب البردويل
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
البردويل
انسحب توفيق من بين يدي أحمد كمن يريد الابتعاد عن مصابٍ بمرض معدٍ، حتى أنه نظر خلفه بعد أن ابتعد عن أحمد ليتأكد أهو يشكو حالة عصبية ربما...؟!
سار على الرصيف يتأمل وجوهاً لا يعرفها، لكنه يرتاح لوجه دونما سبب ويشمئز من آخرٍ دونما سبب أيضاً. أخذ يقلب أفكاره عن أسبابٍ لهذا الذي يشعر به من ارتياح أو اشمئزاز، هل هناك على هذا الرصيف وجوه تغتسل بماء النفس فيرتسم على الوجه ما تحمل هذه النفس من أخلاقيّات فتتقارب وجوه، وتتباعد وجوه لتقارب نفوسها وتباعدها. قد اعتاد المجيء إلى مدينته هذه ليتنفس فيها هواءً جديداً فيزفر هواء وقتامة حياته في الريف ويستنشق بعض المعطيات الثقافية في المدينة، بعد أن يكون قد انتهى من بيع أو شراء الأغنام في السوق. لم يلتفت إلى تنوع المحلات والدكاكين وتنوع عروضها، ليس لأنه يعرف معظم هذه المحلات ولكن لأنه كان مستغرقاً في عروض واجهات الوجوه، تماماً كعروض الدكاكين، منها بضاعة جيدة غالية الثمن ومنها بضاعة رديئة رخيصة الثمن، لكنّ الذي أراد التحري عنه هو سبب ارتياحه لوجه دون باقي الوجوه وانقباضه من وجه دون باقي الوجوه أيضاً.
عاد في المساء وقد ازداد عمل شاحنة أفكاره، أراد أن يستريح قليلاً، فتذكر معاناة مريم في العامرية الآن، رنّ في أذنه ثانية صوت محمود،
- (والله يا خيي.. يا أحمد، فقت على صوت عنينا نص الليل عبتعن متل عنين الناقة... بعد المغرب ما كان فيها شي)
يا لحقد امرأة، أو غضب امرأة، أو جرح امرأة، أو عداء امرأة، لعله محظوظ إذ لم يدفع ثمناً غالياً جراء جرح مريم ذلك الجرح. كان يمكنها أن تدعي أنه تلصص عليها في غرفة نومها، ومن الذي سيكذّب، من له مصلحة في تكذيب النبأ؟ ويتناقل أهل العامرية والزعفرانة والجمّارة خبر أحمد النذل الذي خان منْ آواه في منزله.
كما ليس صعباً أبداً، أن يشيع أنه من أشرف الرجال، ولم نر منه سوى الخير، بعد أن يرضيها بموافقته على وليمة جسدها.
طرق عليه الباب توفيق، وبدا أنه يريد أنْ يتأكد من ملاحظته التيٍ كان قد اختطفها عصر هذا اليوم.
- (كيفك يا سيد أحمد، إشو بتريد، إشو جبت معك، شو بدك، هات قللي)
لشدة ضيقه وبؤسه أراد أن يداعب توفيق،
- (ما بريد غير إني ما شوف قطة جوعاني في الدنيا)
- (لا حول ولا قوة إلا بالله، إنتي بتشكي من شي سيد أحمد؟)
- (لأ، الحمد لله)
- (إشو هالحكي قطط وما قطط)
- (ما بدي غير إني ما شوف قطه جوعاني على وجه الأرض)
- (خيو إش لنا في الأرض، بدنا بيتنا، راحتنا، بتريد شي؟)
- (لأ، يعطيك العافي)
وهو يبتعد عن الغرفة كان صوته يصل إلى مسمع أحمد عن قصد،
- (الله يثبت علينا العقل والدين)
استلقى متدثراً تمر بخياله الصور، صورة حي العامود في العامرية، وصورة مريم، تلك اللبوءة الجريحة، وصورة سعاد، وحي جاكير في الزعفرانة، وصورة حي المنقَّى، وعمر المعطي، والمعطي، وما هما فيه، الخوف من البردويل أم الفخر بما قام به أحمد. استقر عند القاسم وهدى فهما الحياة كل الحياة له، توالى شريطٌ من الصور في مخيلته، شعر بحنينٍ صارخ إلى منزله في هذه الليلة الباردة، وحده في غرفة على السطح في مدينة حلب!!
انتفض من استلقائه، وخرج إلى السطح يتفقد تضاريس المكان، متلمساً مكاناً أو زاوية يهرب منها في حال داهمه رجال الشرطة، نوافذ مضاءة في أي اتجاه مدَّ إليه بصره، وخيال امرأة تروح وتجيء كأنما تستعد لليلة لقاء مع زوجها. تراءى لعينيه أنّ سكان هذه المنازل وهذه الغرف وهذه المدينة كلهم سعداء إلا شخصاً واحداً قدم إلى المدينة هارباً، لم تعرف الطمأنينة طريقاً إلى نفسه، هو أحمد بن المعطي، لقب القاسم والده، لماذا لقبوه بالمعطي؟ لم يناقش الأمر طويلاً، فإن اللقب لا يأتي إلا لمدحٍ أو ذم، ولا شك أن لقب والده كان لمدح إذ كان يعطي لمن يطلب، ولا يعرف الرفض أو التردد فلُقِّب بالمعطي لهذا السبب. قال له مرة، لقد طلب مني محتاج كيس قمح، وليس في المنزل غير كيس واحد فأعطيته إياه دون تردد وبعد أقل من ساعة وقفت شاحنة قبالة باب المنزل الخارجي وأنزل رجال كانوا فيها سبعة أكياس من القمح، خرجت لأسألهم، لكنهم كانوا قد ذهبوا.
فلماذا قتلت زوج المعطي وهو على هذا المستوى من الأخلاق والكرم؟!!
لم يكتف بالرصد من فوق السطح، تسلّق سطح غرفتة ولم يفطن إلى أن من يصعد لا بد سيضطر للنزول. ليس هناك سلّم فتحايل على النزول، تدلى مستفيداً من طول قامته، لكنّه أحدث صوتاً حين ارتطمت قدماه بالسطح.
صعد توفيق ملهوفاً، هل هناك لص على السطح يا أحمد؟ بدا أنه سيكذب، إذ كيف سيسوغ لصاحب المنزل أنه تسلق سطح الغرفة؟ ولماذا؟ تداول الحديث مع توفيق متحايلاً لكنّه أخيراً أجاب بكل وضوح أنه لا يعرف سبب الصوت. لأول مرّة في حياته يكذب بهذا الوضوح وبهذه المباشرة، هل تعرف منْ أحدث هذا الصوت؟ ليس هناك من جواب سوى، بلى أعرف أو، كلا لا أعرف، اختار الثانية، وشعر بصعوبة ما سوف يعانيه في غربته هذه، الليلة الأولى، اضطر للكذب، فكم ستتوالى ليال، وكم سيضطر لممارسة ما لم يكن يضطر إليه؟ الإنسان ساعة الضيق، يتحول إلى ثعلب، إلى أرنب، إلى كذّاب، إذاً كم هناك من رجالٍ يتربعون فوق ممالك، وإذا وضعوا في غرفة على السطح، لاختلف حديثهم، هيبتهم، شخصيتهم، ابتسم وهو مسترسل في تخيل ملك مزكوم أو مجروح الشفة أو...؟! لكنهم لا يحتاجون إلى النوم في غرفة على السطح حتى تظهر عيوبهم، فهي ظاهرة وهم على عروشهم. تذكر بذاءة أحدهم أمام جماهير متنوعة الأخلاق والثقافة، والتلفاز ينقل حديثه إلى العالم كلّه بالصوت والصورة، لم يخجل قط من تكرار ألفاظ البذاءة التي وضعتها اللغة في الدرك الأسفل من سلّم المترادفات، ابتسم أيضاً، على ذاك البذيء الذي يتصدى للثقافة مدّعياً انه يعبر عن ثقافة الشعب.