قراءة كتاب البردويل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
البردويل

البردويل

كتاب " البردويل " ، تأليف عبدالله هلال ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 4

استرجع صورة القاسم حين رافقه بزيارته إلى منزل والده في الجمّارة قبل عامين، كان يحثه على الإسراع في العودة إلى الزعفرانة، القاسم لا يرى في ذلك المنزل، منزل جده الذي زاره لساعات، ما يرى والده الذي ولد فيه وحبا بين جنباته، ورضع فيه حليب أمه، وعاش فتوته وشبابه تحت سقفه، أراد أن يزيح هذه الصورة عن مخيلته، لكنّه عبثاً حاول.
أبعده عنها حدّة صراخ ولده وهو يتشاجر مع أحد الصبية بينما التفّ حوله ثلاثة آخرون. رغم أن المشهد أحزنه، فسيشعر ولده أنه غريب في الزعفرانة، إلا أنه لم يتدخل بل راقب سلوك ابنه. تضاعف حزنه إذ إن القاسم لم يكن كما يريده أن يكون فقد انسحب من بين الصبية مهزوماً، لأول مرة يُختبر ولده أمامه، إذا كان البردويل خاله، وأنا أباه، فلماذا لم يكن شجاعاً؟!
ربما شجاعة البردويل خلبيّة وقد يكون جباناً في مواجهتي، الكثير من مدّعي الشجاعة هم في الحقيقة جبناء، والكثير من مدّعي الكرم بخلاء، ومن مدَّعي.. ومدّعي..
صرخ في الأطفال أنْ ينفضوا إلى بيوتهم فالطقس بارد جداً، قرأ في وجوههم عدم التصديق، فأي طقس بارد وهم على هذه الحال من الحيويه وغليان أجسامهم في هذه السن، يركضون، ويمرحون، ويتحركون. هو الذي سيعاني البرد في الجمّارة منتظراً دخول البردويل إلى منزله أو خروجه منه للسهر عند إحداهن ربما. قد لا يعود إلا قبيل الصباح إذا كانت سهرته مع فطيم العزو وزوجها المنتوف ينفذ ما يطلبه منه لقضاء حاجاته خارج منزله بينما فطيم تُغني سهرته بحديثها وجسدها.
مسح قطرات الدم المتدحرجة على وجه قاسم، وانتحى جانباً، فيما علا صوت هدى، ورأس لسانها يطلُّ من بين سنين، من غير أن تحاول إخفاء لثغها بإخفاء لثغها، لماذا لم تدمه كما أدماك (وتثبو متل ما ثب أبوي)؟ ابتسم في صمته، أيعقل أن تكون هدى هي الصبي وقد ولدت أنثى خطأً؟ هي تفصح عن شخصية قوية تليق بالفتيان أكثر.
تهالك على مقعده متكئاً على حيرته، إذا كان قاسم جباناً فهي الخسارة الكبرى، أكبر من خسارة الأرض، فالرجل يعيد الأرض ولو طال الزمن، والجبان يضيع الأرض ولو كانت بحوزته. يتمنى أن يكون القاسم شجاعاً ولو جاءته الشجاعة من البردويل الذي سيواجهه اليوم أو غداً، لا بأس أن ينتصر البردويل على حساب خسارته هو مقابل أنْ يكون قاسم منتصراً في حياته المديدة القادمة. أمّا أن يكون القاسم مهزوماً فلا بد إذاً من النصر على البردويل، لا أستطيع تقبل هزيمتين، ومهما كان ثمن النصر فسأدفعه... كيف يجترع البعض الهزيمة تلو الهزيمة؟!..
لم يستطع تناول العشاء وقاسم المهزوم معصوب الرأس، غادر منزله إلى فضاء الزعفرانة، نظر إلى المصابيح المضاءة والأبواب المتناوبة الفتح والإغلاق وبعض المارّة يسرعون الخطى إلى أحضان منازلهم، كأنما هو الوحيد في الزعفرانة، أو في الأرض، يترنح تحت ثقل مأساته. انتهى إلى منزل البديوي وانضمّ إليه فيما كان يتابع على شاشة التلفاز حواراً صاخباً بين المذيع وضيفه. كان المذيع ضخم الجسم أجش الصوت، قاسي الملامح، فلم ينتظر البديوي حتى قال:
- (إنو منين بيجيبو هالمزيعين، ما ضل غير يحطولنا البردويل مذيع في التلفزيون)
صعدت ضحكة من فم أحمد كأنها غير إرادية، كما لو شرب سائلا ً غازّياً، فشكل فقاعات ضحك، قال:
- (ليش ما منعمل محطة تلفزيون) وضحك ثانية (هون في الزعفرانة)
- (مشان إيش؟)
- (مشان يحطولنا البردويل مذيع، بيطلع علينا كل ما راد ونحنا ببيوتنا)
ضحك ثالثة وأضاف:
- (بنسهر معو)!
تراجعت ابتسامته كما بفعل نابض وقام مغادراً.
كانت سعاد تنتظر قدومه بثياب نومها، جسدها المتلألئ لم يحجبه الثوب وقد لاحت كتفها كما قمر أطل بعد انقشاع غيمةٍ. نظر إلى وجهها الذي لم يمل النظر إليه قط، أزاح بأصابعه شعرها فكشف عن مساحةٍ أوسع من جبينها، وعنقها، فبدت أذناها من دون أقراط، كان قد باع قرطيها ليدفع ثمن ثياب آخر عيد، لقاسم وهدى، احتضنها والتحم جسداهما في عناق حار، انتشلته من حزنه وغمرته في حيرته، استغرق في النظر إليها، جسداً، وقلباً، وعقلاً، كيف تكون سعاد على هذا الرقي من الجمال ويكون البردويل على ذاك الرقي من القبح..؟!
أيام سبعة ولم يغادر الصقيع منطقة الجمّارة والزعفرانة، حتى بدأ أحمد يشعر بأنّ عزيمته تكاد تتراخى ويعتريها الوهن، فهو ما فتىء يؤجل تنفيذ قراره بمواجهة خصمه. نهض مصمماً، حمل ما قد يحتاج إليه من أدوات قتال ونادى جاره عدنان وانطلقا في شاحنته الصغيرة إلى الجمّارة في أول ليل ذلك اليوم الصقيعي.
اتفق مع عدنان أن يرجع إليه عند الفجر، قرب أرض التوبة. ما إن ترجل من الشاحنة حتى شعر بالبرد القارس يلسع وجهه من تحت اللثام، أحكم غمر وجهه باللثام السميك، شدّ رباط القفازين وتفقد مديته، ثم سار بهدوءٍ حذرٍ يتوجس بقلب أسد ومشية ثعلب.
هذه هي الجمّارة التي أحب، وحدي في أطراف حي المنقى، ولماذا أسموه هذا الاسم؟ لعل أول منْ سكن فيه انتقى من يجاوره ليكون الجار الأفضل، الذي يساعد منْ حوله على مواجهة صعاب الحياة. وحي سرقد؟ ما معنى سرقد ومن أين جاءت؟ تبدو كأنها كلمة تسللت من لغة قديمة مندثرة، إذاً الجمّارة قديمة، ربما قدم التاريخ، وربما سبقت مدناً مشهورة بقدمها. لكنّها ليست مدينة، إذ كلما اتسعت لتشكل مدينة كانت تدمّر لتعود أرضاً يباباً ثم تنبثق من جديد في المكان نفسه وغير الزمان، لتدمّر ثانية وثالثة، فهل سيدمّر البردويل الجمّارة في هذا الزمان..؟
مسح المكان قرب منزل البردويل، واختار أن ينزوي خلف جدارٍ متكسر لحوشٍ قديم للجربوع، مكث قليلاً ورصد مدخل منزل البردويل، المنزل نفسه الذي كان يرصد مدخله لرؤية سعاد وهو غادٍ رائح أمام أعين الناس في غايةٍ من الحيوية والفرح والأمل. هو الآن متخفٍّ عن أعينهم، في منقع من الخوف والقلق والبؤس. هذا هو الحوش الذي حدّثني عنه عمر قبل أيام من قدومي إلى الجمّارة وقد بدا عليه اللوم، لماذا لم تشتر حوش الجربوع؟ تفحص الحوش الذي هو عبارة عن سور يحيط بغرفة شبه مهدمة كان يسكنها الجربوع. عادت كلمات عمر تطن في أذنه، أتعلم أن سعر الحوش قد ارتفع مئة ضعف بينما لم ترتفع أسعار الأراضي الزراعية عشرة أضعاف، لماذا لم تشتر الحوش يا أحمد وقد كان بحوزتنا المال..؟! إذاً هذا هو الحوش الذي اشتراه البردويل، ومن عائد أرض سعاد، كان من الممكن أن أشتريه أنا، ومن عائد أرض سعاد... زوجي.
صعد إلى سطح الغرفة من فوق السور الملاصق، لاحت لنظره نافذة منزل الثريي كظل لكنها تبدو للبردويل واضحة كالثريا في السماء في ليلة صحوٍ كهذه الليلة، ابتلع لعابه الساخن، وتلمس مديته، أين هو البردويل؟!
كان يرصد الشوارع الثلاثة التي توصل إلى منزل البردويل من ثلاثة اتجاهات. المنزل يتربع على مساحةٍ واسعة، ربما هو المنزل الأوسع في الجمّارة... لم تكن هذه الأبنية موجودة، ولا تلك المجاورة لمنزل البردويل، كما لم تكن هذه الشوارع قد شُقَّت حين كان والبردويل يتصاحبان في أغلب الأحيان في أوقات سمرهما. حين كان يرقب الباب من بعيد، كان يمكنه رؤية سعاد، لعدم وجود ما يحجب نظره، فيسرع إليها يتبادلان نظرات الحب أو يتحاوران عند مدخل المنزل، يسوغ مجيئه بالسؤال عن شقيقها، ومرة اختلس قبلةً خاطفةً من وجنتها! تختلط صورة وجه سعاد بصورة وجه البردويل في مخيلته، كأنما أصيب بعمى ذاكرة، أو كمن يعيد لفظ اسم لعشرات المرات، فيفقد معنى الاسم، أو يخطئ في إعادة لفظه صحيحاً.
التفت إلى جهة وقع خطوات، لكنه واجه نافذة الثريي التي لاحت له وهي تخلع ثوبها استعداداً للنوم، إذاً أين البردويل؟ قد انتصف الليل، والنجوم اعتلت مكانها، تعلم قراءة الليل أثناء مبيته قرب الأغنام في ليالي الحصاد. نظر إلى الثريا في السماء، ونظر إلى الثريي في الأرض، وغصَّ بالثريي تفكيره، هذه الثريي كانت في متناول يدي، حين كنت والبردويل نقتسم حبّها وقبلاتها وهي في منزل والدها، قبل أن تتزوج ابن الجربوع. انتهت إلى حوزة البردويل وحرمت أنا من وصلها؟ لا يمكن أنْ تتكرم عليَّ الآن حتى بسؤال أو سلام، أخذ البردويل الأرض، وحوش الجربوع، والثريي، وكل هذا كان لي.
أُطفئ ضوء غرفة الثريي، نقل بصره بسرعة إلى الجهة المقابلة لمكانه، أُشعل ضوء في غرفة من غرف منزل البردويل، لم ير منْ في الغرفة، قد تكون نوَّّار زوج ذلك المجرم... تزوج البردويل لينجب بردويلين كثراً؟! غيّر من ملامح وجه نوَّار، فضاق جبينها، واتسعت عيناها، وصغر فمها، حتى رأى سعاد بدلاً منها، أين أنت الآن يا سعاد؟ وأنا في هذا الحوش المهجور أرقب بردويلك لأقتله أو يقتلني. وأنت يا عمر، تنعم بدفء فراش ندوة، وأنا في الطقس شديد القسوة هذا؟! لعلك معي بوجدانك وأنت في فراش ندوة، لعلك تشعر بشقيقك يعاني صقيع هذه الليلة، وحرارة قلبه، من أجل أمكما، من أجل عائلتكما. سينالك نصيب من العزة إذا تحقق لي النصر، نحن ريفيون وينسحب عار المهزوم ومجد المنتصر على أهله وذويه!

Pages