كتاب " عين الشلال " ، تأليف د. إبارهيم فضل الله ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب عين الشلال
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
عين الشلال
خرج يمشي داخل المخيم، يتسقّط أخبار قريته لعله يسمع شيئاً عما جرى، وكان يسير هائماً... إنه لم يدرك حقيقة ما يجري... الصدمة أفقدته توازنه؛ لقد أقصي عن بلدته قهراً وكاد يموت هو وأمه مرات كثيرة أثناء القصف على البلدة أو في طريق الرحيل....
نظر إلى امرأة تجلس أمام خيمة، وتقدم قليلاً ليتضح له الأمر؛ إنه وجه يعرفه:
ـ أهلاً بخالتي الحمد لله على السلامة.
ـ أهلاً سمير.
ـ خير يا خالتي شو أخباركم؟
ـ مصيبة يا سمير، خرب بيتنا، كان زوج خالتك أسعد نائماً في سريره وعندما بدأ القصف، وبعد قليل ثار الغبار وتداعى البيت علينا، وعندها لم أعد أرى شيئاً... ثم وجدت نفسي في مستشفى جبل عامل في صور، وعلمت أن "أسعد" فقد رجليه، وفي اليوم التالي رحلت مع النازحين... ووصلت إلى هذا المخيم... وسلموني هذه الخيمة ولا أعلم ما سيحلُّ بي في المستقبل...
استمع إلى كلامها بانتباه شديد، ثم قال:
ـ خليها على الله يا خالتي... والحمد لله أنكم سالمون.
ـ ونعم بالله، كيف بنَّا نكمِّل حياتنا يا ابني والله مني عارفة.
ـ الله بدبرها، رح أقول لأمي حتى تجي تطّمن عليكم.
وخرج من خيمة خالته، وهو يفكر في هذا الظلم المقيت الذي يلحق بأهل قريته، وأهل الجنوب قاطبة، وأهل لبنان كله، بل بجميع المظلومين من العرب والإنسانية كلها.
وهل حكم على أبناء هذا الوطن أن يعانوا في وطنهم؟
تذكّر جدّته لأبيه وحديثها عن أبيها ووقوفه في وجه المتسلطين والإقطاعيين الذين كانوا يسومون الفلاحين ألوان العذاب ويقاسمونهم جناهم، حتى ضاق به ذرعاً وجيه القرية الذي اتهمه عند الأتراك بأنه يحرّض الأهالي على الثورة ضدّ السلطان، وأوعز إلى وجهاء القرى المجاورة مشاركته في إرسال التقارير إلى الوالي التركي، الذي استجاب إلى الوشاة وأصدر فرماناً بإعدامه لأنه أضرّ بمصلحة الدولة العليّة، فسيق والدها إلى ساحة البلدة وشنق في وسطها... وكم سمع منها حكايات جده لأبيه؛ زوجها جبر، الذي سار على خطى أجداده وأسلافه، فقد عاش حياته وهو يحارب الباطل ويسعى إلى رد الحق إلى أصحابه، وأصبح محط أنظار كل مظلوم في قريته... ثم امتدّت شهرته إلى القرى المجاورة حتى أصبح مقصد كل المظلومين والفقراء والمعدمين، الذين كانوا يحتجون عنده على ظلم يكون قد لحق بهم... لم يترك جبر لابنه سوى هذه الدّار مع القطعة التي في المرج... وطالما حدثته أمه عن هذه القطعة من الأرض التي ورثها أبو سمير عن والده، والتي لو بقيت إلى اليوم لكانت تساوي ثروة ضخمة... وتستدرك بقولها:
ـ الحمد لله أنه لم يبع البيت وإلّا كنّا في الشارع.
ثم تجد له عذراً فتقول:
ـ لقد باع الأرض لأمر مهم... فهو باعها من أجل أن يشتري بارودة إنكليزية وعشرين قنبلة يدوية، ومسدساً إنكليزياً وحمل سلاحه والتحق مع المجاهدين في حيفا، وكان مقرّه إلى جانب الشارع الرئيس والمهمة التي يتولاها هذا الموقع هي حماية الشارع من الصهاينة والدفاع عن المدينة.... لكن براميل كثيرة محشوة بالمتفجرات قد دحرجت من أعلى التلة المشرفة عليهم، فدمرت الموقع وقتل عدد من المجاهدين وجرح الباقون ونجا "أبو سمير" من المعركة بأعجوبة إلّا أنه حمل معه طوال عمره آثاراً من هذه المعركة تمثلت بثلاث أصابع من يده اليمنى قد بترت والتي لم يبق منها إلَّا السبابة والإبهام. وسمير يذكر هذه اليد جيداً.
وتؤكد أم سمير أنها سمعت هذه الرواية من زوجها مراراً... وكانت دائماً تقرن حديثها عن زوجها بحديثها عن سلفها "وحيد" الذي يصغر زوجها ببضع سنين، وكم كان ينصت سمير إلى حكايات أمه عن عمه هذا الذي التحق بالفدائيين، وأقام في معسكراتهم خارج البلدة، وهو أول من استضافهم في منزله... هذا المنزل الذي قضى سنوات في بنائه وتجهيزه من أجل أن يتزوج فيه ابنة عمه التي عاش معها قصّة حب طويلة عرفتها الضيعة كلها... غير أن وحيد تمكّن من تجنيد حبيبته في العمل الفدائي، ثم أقنعها على تقديم البيت "فداء" للثورة وتضحية في سبيلها... وافتتح في "عين الشلال"، أول مكتب "لحركة فتح... قوات العاصفة"... وكان يجمع التبرعات من الأهالي لمساندة العمل الفدائي، ويدعوهم إلى تأييد المقاومة، كما قاد سكان البلدة في تظاهرات لمنع الجيش اللبناني من الدخول إلى القرية، من أجل إبعاد الفدائيين عن الحدود الفلسطينية... وأصبح "وحيد" عنصراً فاعلاً في العمل الفدائي وبدأ يشارك في العمليات الفدائية ضد الاحتلال الصهيوني داخل الأراضي المحتلة، وفي إحدى عملياته اصطدمت مجموعته بقوة إسرائيلية وراء الشريط الشائك ودارت معركة بين الطرفين... قيل إنّ عدداً كبيراً من الجنود الصهاينة قد قتلوا في هذه المواجهة، وفي المقابل استشهد رفيقاه ووقع هو في الأسر... أما ابنة عمه، زوجة المستقبل، فكانت قد استشهدت قبله في إحدى الغارات التي شنتها الطائرات الإسرائيلية على المقر الفدائي الذي كانت من حرّاسه...