كتاب " دفاعا عن الجنون - مقدمات " ، تأليف ممدوح عدوان ، والذي صدر عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
طوبى
طوبى للبطن الرافض حملاً كي لا يبقر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
كتاب " دفاعا عن الجنون - مقدمات " ، تأليف ممدوح عدوان ، والذي صدر عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
طوبى
طوبى للبطن الرافض حملاً كي لا يبقر
إن ما يبدو في ظاهره حباً للؤي ومجاملة له هو كره للؤي ونيل منه بالتعتيم على امتيازه العظيم ومجاملة لأنفسنا. فهناك دائماً أناس تريد أن تكرههم لأن حساسيتهم تسبقك ولأن انفجاراتهم تدين هدوءك وتفهمك وعقلانيتك.
وأنا لا أكتب الآن سيرة بطل يستطيع أن يصمد. ولا عن رجل سياسة يستطيع أن يلف ويدور ويبرر. إنني أكتب عن فنان. أي أنني أكتب عمن له الحق أن يكون ضعيفاً إذا كان ضعيفا.. وعمن له الحق أن يوصله ضعفه إلى الجنون.
دعونا نعترف الآن بأبسط الحقوق الطبيعية: أعني حق الفنان أن يكون إنساناً طبيعياً وأن لا يكون مدجناً ومألوفاً. وهنا لا أطالب باعتباره خارقاً لكنني أطالب بحقه في أن يبكي ألماً حين يحجب الناس دموعهم ويعتبرون حجبها قوة، وحقه في أن يسكر حين يشرب وأن يجن حين يختل التوازن القائم بين عالمه الداخلي والعالم الخارجي.
لؤي كيالي نموذج يحتوي على كل المواصفات التي تستطيع أن تهاجمها، لكنه يحتوي أيضاً على كل المواصفات التي تحب أن تدافع عنها.. ولعل ما يدفعني إلى الكتابة عنه هو أن الكتابة عن فرصة للدفاع عن البديهيات المغيبة عن حياتنا.
هذا الرجل لم يتقولب فناناً ولم يتقولب سياسياً أو بوهيمياً أو ثورياً. احتفظ بكونه انساناً وحين مر في تلك المراحل كلها مر بها كإنسان وعاد منها كإنسان.. ولأنه إنسان فقد عاد منها بندوب وكدمات. عاد منها مثلوماً ومجروحاً ومضرجاً وممرغاً مثلما هو الإنسان العربي الآن.. مع فارق أن لؤي لم يضع مكياجاً على ندوبه. ارتكب مجموعة من الأخطاء والحماقات المضحكة ولكنها كانت دلالة على أنه إنسان لا يريد أن يكون خارقاً إلا في قدرته على الاحتفاظ بحقه في الجنون حين ينهار العالم من حوله بهذا المقدار ويسود الكذب من حوله بهذا المقدار.
وما يهمنا في جنون لؤي أنه ليس صرعة فنية. أي أن لؤي لم يكن مجنوناً في ابداعه، كما كنا نتمنى، بل كان مجنوناً في حياته فقط.
لو أن جنون لؤي انعكس في إبداعه لقدم في لوحاته صورة عن عالمنا المهين واللامعقول أو إدانة لهذا العالم أو بصقة عليه.
لكن لؤي لم يكن قادراً على فعل ذلك، لأن الذي يفعل ذلك يكون قوياً قادراً على الرؤية والتعبير عنها.. وقادراً على إبقاء الخيط بينه وبين الناس ليجرحهم ويثير اهتمامهم.. ولهذا كان لؤي ذلك المجنون الخاص المنهك، ولم يكن له ذلك الجنون الممتع الذي يتوجه إلى إثارة اهتمام الآخرين. ذلك أن (أكثر أنواع الجنون شيوعاً، كما يقول مارك توين، هو الاستمتاع بإثارة اهتمام الآخرين).
جنون لؤي كان كما كان يصفه طبيبه الدكتور عبد الخالق سلطان «مرض النفاس الدوري».. وحين يذكر الدكتور العوامل المهيجة يعدد العوامل النفسية والاجتماعية والأسرية (ولا يذكر السياسية).
لم يستطع لؤي أن يقدم فناً مجنوناً.. ربما لأن اضطرام عالمه الداخلي كان أشد عصفاً وعنفاً من أن يجد بديله الموضوعي في لوحة. لقد اعتكر عالمه الداخلي واضطرب قبل جنونه. منذ أن انتقل ذلك الانتقال الفجائي من عالم الدعة والترف والمجد إلى عالم البؤساء والقضايا الملحة وحاول أن يعيش هذا العالم ويكشفه وينفعل به ويعبر عنه.
أهم حدث في حياة لؤي كيالي ما كان يتهامس به الوسط الثقافي في أواسط الستينات منه أنه «انتقل من رسم كلب زوجة السفير إلى رسم الفقراء».. وأنا لا أعرف أنه رسم كلاب زوجات السفراء لكنني أعرف أنه رسم الزوجات فعلاً.
كان لؤي انساناً سعيداً. شاب جميل ناعم له علاقات ممتازة مع أوساط مريحة وغنية وهو فنان ذو شهرة ولوحاته تباع بأسعار عالية.
وفي أواسط الستينات ظهرت موجة اعلامية ثقافية، كانعكاس لوضع سياسي، تؤكد على الفكر التقدمي وعلى الاشتراكية والصراع الطبقي والكادحين والفقراء والالتزام بالجماهير.
وبدأت هذه الموجة تنال من لؤي وتطرح عليه اسئلة محرجة ومن خلال الاحتكاك والمماحكة بدأ يتنبه إلى واقع غير الواقع الذي كان يعرفه والذي تعود أن يتعامل معه بفنه. حاول أن يكتشف الواقع الذي أرهقوه بالحديث عنه. اكتشف فقراء، وجائعين.. اكتشف صيادين وحصادين وأطفالاً مشردين.. واكتشف قضايا يموت الناس من أجلها وهي تستحق ذلك. واكتشف عذابات يعيشها الناس.. اكتشف حياة لا تليق بالبشر وافترض لو أنه اضطر للعيش فيها لما قبل. أي عالم هذا؟ وكيف يمكن احتماله وكيف تتم مقاومته؟!.. وكيف يتواءم الناس أربعاً وعشرين ساعة مع حياة كهذه؟!.. لا شك أن الثقل كبير ولكن هؤلاء جبابرة لكي يستطيعوا احتمال هذا كله. وكانت النتيجة معرض «في سبيل القضية» في أيار 1967.
قال لؤي عن معرضه هذا بأنه «تجربة مر بها من أجل اكتشاف القضية» ولابد أن التجربة كانت مفزعة وكابوسية. وقد انعكس هذا في معرضه المذكور. فقدمت لوحاته أناساً مذعورين من هذا الوضع لكنه قدمهم أجلافاً وغلاظاً وأقوياء. ذوي ملامح قاسية وأطراف ضخمة.. يحملون أعباء داخلية مضنية وخارجية مرهقة، يسحقهم هذا الواقع ولكنه لا يخضعهم.
لم يكن يستطيع أن يفعل غير ذلك أمام رغبته في الانتماء إلى هؤلاء الناس وأمام ذعره مما اكتشفه في حياتهم فأسقط ذعره عليهم.
وكان لؤي وهو ينتقل هذا الانتقال النوعي يحس أنه يضحي. لقد قدم تنازلاً هاماً وخطيراً.. تنازل عن جمهوره السابق ونماذجه السابقة وسمعته السابقة ومرابحه السابقة.. فكان لابد أن يفقد راحته الداخلية السابقة وانسجامه مع عالمه السابقة.. وكتعويض كان يتجه بفرح وحماس إلى اكتشافه الجديد.
ولكن معرض لؤي هذا ووجه بعاصفة من النقد الشخصي والفني. وكان لؤي يستطيع أن يقاوم صدمة كهذه. وحتى حين لم يشتر الجمهور أية لوحة من المعرض كان يستطيع أن يفهم أن هذا الجمهور الذي اختار أن يتوجه إليه بفنه لا يستطيع أن يشتري لوحات فنية أو لم يتعود أن يشتري لأنه لا يهتم بذلك.