قراءة كتاب دفاعا عن الجنون - مقدمات

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
دفاعا عن الجنون - مقدمات

دفاعا عن الجنون - مقدمات

كتاب " دفاعا عن الجنون - مقدمات " ، تأليف ممدوح عدوان ، والذي صدر عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

طوبى

طوبى للبطن الرافض حملاً كي لا يبقر

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 5

إن تذكر تفاصيل تلك الأيام يؤكد أن العالم من حولنا كان قد تحول إلى مستشفى للمجانين تقوم بينهم علاقات لا معقولة ولم تنزل في قاموس المستشفى كان العاقل الوحيد، تقريباً، لؤي كيالي، ولذلك اعتبر المجنون الوحيد.

كانت الحياة لا تطاق. والذين كانوا يحسون بها على هذا النحو انقسموا إلى قسمين: قسم يرى أنها ليست حياة.. وبالتالي فهي قد استوت بالموت.. ولا شك أن إحساسا كهذا قد ساعد على نمو العمل الفدائي ورفع وتيرة عملياته.. وقسم آخر بقى في الحياة الأخرى ليواجه لا معقوليتها فكان لابد أن تكون إجابته عليها لا معقولة.. أي بلا عقول..

كان لؤي قد دعا نفسه، أو دعي واستجاب، إلى التحديق في الواقع ففعل، واكتشف ووقف عند اكتشافه.

وحين تمت اللعبة الانقلابية في الحياة كخداع للذات عن مواجهة الهزيمة كان لؤي ما يزال واقفاً عند الطرف الآخر.. فبقي وحيداً وظل يعيش (كما يرى)..

انهار لؤي.. وانهار توازنه وانهار ارتباطه بكل شيء كما انهار ايمانه بكل شيء وكطفل يغضب من أمه أو من أخيه فيحطم ألعابه.. عاد لؤي إلى بيته زعلاناً من وطنه فأتلف لوحات معرضه كاملة.

كان لؤي يحتمل كل شيء لفرحه باكتشافه الجديد ولثقته بالانتصار. بصبر وجلد كان يخوض تلك المماحكات الكلامية وكان يصمد أمام الاتهامات.. ولكن كل شيء تبدى له فيما بعد سراباً.

كان لؤي قبل تورطه في القضية يعيش حياة هادئة مجانية وسهلة. ثم تسرب إليه القلق الوطني وقبل أن يتمكن من التواؤم معه.. وحين كان ما يزال في مرحلة (التجربة من أجل اكتشاف القضية) وقعت الهزيمة.

الهزيمة الآن كلمة سهلة. ولكنها في ذلك الحين كانت انهيار بنيان هائل من الثقة بالنفس والإيمان بالمستقبل والاطمئنان إلى الذات والغرور الوطني والاستهتار بالخصم وتصديق القيادات السياسية.

كان بإمكان لؤي أن يمسك بتلابيب نقاده الجدانوفيين ويصرخ في وجوههم، أهذا هو المستقبل الذي كنتم تعدونني به وتطالبونني باستشرافه؟!.. وحتى حين غرق الجو العربي بالكلام. وبالكلام المعبر عن القرف من الكلام، وبالقفز فوق الهزيمة للتشبث بإشراق المستقبل النظري، كان يمكن للؤي ونحن معه ـ أن يقول ـ الآن وفي ذلك الحين ـ (أيها السادة الذين طالبتموني قبل أربعة عشر عاماً بأن أكون متمشياً مع الواقع المتفائل وحين طالبتم أن تكون لوحاتي متفائلة ومتمشية مع ما تريدونه من التفاؤل ومستقبل الثائر العربي.. شرفوا الآن ودلوني على ملامح هذا المستقبل الذي كنتم تشنقونني من أجله منذ ذلك الحين)..

لا نستطيع أن نقول أن لؤي قد تنبأ بالهزيمة. والعذاب الذي يتأجج في أبطال لوحاته كان نابعاً من تقديره لإحساسهم بوضعهم أو من إحساسه هو بوضعهم. ولو أن معرض لؤي كيالي قد تأخر شهراً واحداً فقط أي لو أنه عرض بعد الهزيمة، لا قبلها، لاكتسبت تلك اللوحات أبعاداً سياسية جديدة، ولما كان في وسع أولئك النقاد الجلادين أن يتحدثوا عن التفاؤل والتشاؤم والمستقبل الثوري.

لكن ما حدث أن المعرض أقيم قبل الهزيمة ولذلك سارع لؤي إلى بيته ليتلف اللوحات معلناً يأسه من كل شيء.

وكما رأى لؤي دمار العالم أراد أن يكون دماره.. لقد تحول إلى كتلة من الأعصاب العارية من جلدها. وصار أي شيء قابلاً لدفعه إلى الحد الأقصى من الغضب أو الحزن.. أي شي.. خبر سياسي.. كلمة عابرة.. تحية من شخص ما.. منبه سيارة.. خطاب سياسي..

وفي أتون الهزيمة تولدت لدى كل إنسان الرغبة في إعادة النظر في تفاصيل الحياة كلها.. الاجتماعية والسياسية والثقافية.. وحتى الحياة الشخصية.. على درجة أننا صرنا نطيع شارات المرور أكثر. وكان هذا دليلاً على إحساس الجميع أن الهزيمة لم يلحقها بنا العدو بل ألحقها بنا تخلفنا وضعفنا وانعدام إحساسنا بالمسؤولية والخطأ الذي تقوم عليه علاقتنا اليومية والدائمة..

في حالة كهذه إما أن ينشغل الإنسان بهذه المراجعة الشاملة، وإما أن يقف مصعوقاً أمام حجم الخطأ في الحياة. وكما أن لؤي كان قد اكتشف الواقع من قبل، كذلك اكشف الخطأ ولكن بعد أن كان هذا الخطأ قد شطره إلى نصفين. لهذا لم يعد قادراً حتى على التعبير عن رؤيته هذه بالفن بل استهلك أعصابه في المواجهة اليومية للحياة.. فجن ولم يقدم فناً مجنوناً.

وبمقدار ما نستطيع أن نتحدث بهدوء عن حالة لؤي لندينه. نستطيع لو أننا نظرنا إلى الأمر من زاوية أخرى، أن نرى في جنونه موقفاً يدعو إلى الاحترام، لم يكن جنون لؤي فقداناً مجانياً للتوازن العقلي بل انفجاراً مدمراً في الحساسية. وهذه الحساسية هي التي يمكن أن تديننا نحن الذي كنا نفتقدها فاستطعنا أن نتابع حياتنا بهدوء واتزان، حتى التعود، فالنسيان.

لقد جن لؤي لأنه لم يعد يطيقنا. وجن فكشف أن حياتنا تجنن وتطقق العقل.
 

Pages