قراءة كتاب دفاعا عن الجنون - مقدمات

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
دفاعا عن الجنون - مقدمات

دفاعا عن الجنون - مقدمات

كتاب " دفاعا عن الجنون - مقدمات " ، تأليف ممدوح عدوان ، والذي صدر عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

طوبى

طوبى للبطن الرافض حملاً كي لا يبقر

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 6

وحين شفي لؤي في عام 1973 عاد إلينا فرآنا ما نزال على حالنا ورأى ما جاءنا فيئس حتى من الجنون ذاته ولذلك وقع في خليط من الجنون والعافية. وبين أسلوبه القديم واكتشافاته الملتزمة، بين صخب العالم الداخلي والراحة التي صار يحن إليها وقد أرهقه التعب. لم يعد يجد ما يستحق أن يرتبط به. لكن القلق الوطني كان قد جرثم عمره فلم يعد قادراً على العودة إلى دعة أوائل الستينات. ولما كان غير مؤهل للعمل بين الجماهير ولما كان مرهقاً من الكلامولوجيا العربية انصرف إلى حياة اللهو المريض الذي يمكن شراؤه. انصرف إلى الخمر والكباريه والفن الرخيص المبتذل والمخدرات. وكان هذا إضرابا علنياً عن كل ما يدعي أنه جدي في الحياة المحيطة به.

ومقابل ذلك، وأمام حنينه إلى أيام تعود على نفسه فيها أن يكون فناناً، صار يرسم، ليس صدفة أنه أكثر من رسم الزهور أو انه كرر لوحات سابقة أو أنه كان يرسم بناء على طلب الزبائن، لقد انتهى الفنان تحت رماد المعاناة. وحين كان هذا الفنان يستفيق، كان يرسم عالماً هادئاً ساكناً: زهور، قوارب، حتى كان يرسم شخصيات بائسة كالصيادين والباعة المتجولين كان يقدمهم بائسين ضمن عالم صاف وهادئ.. ومستسلمين لحالة كأنما لا فكاك منها. ولم يعودوا أقوياء متألمين ورافضين كما كانوا في معرضه الأول. ولا شك أن ذروة ما تبقى في النفس من مرارات هي لوحته التي تظهر عجوزاً متسولاً عين وحين سئل عنها قال أنه واحد من ثوار الثورة السورية يتمدد للتسول أمام المكتبة الوطنية بحلب.

أعتقد أن لؤي كيالي بدأ فناناً ثم انتمى ولم يكمل انتماءه (وفي تلك المرحلة من الانتماء الناقص أعطى ابداعاً استثنائياً) ثم صار ثمرة طبيعية للحياة التي نعيشها. صار مجنوناً ثم يائساً.. ثم ضائعاً..

في نظرة إلى موجز حياة لؤي نكتشف كم من الطاقات المشابهة تهدر في وطننا. بحسرة ومرارة نقول أن لؤي فنان كان يمكن أن يخترق الحدود والمألوف. ولكن وطننا، بسياسته وثقافته وهزائمه وركوده، دفعه إلى الجنون، وبعد أن تجاوز الجنون لم يجد إلا الخواء. فكان لابد أن ينتهي إلى الضياع فالإدمان فالخطأ المميت الذي حدث ذات يوم والذي كان من الممكن أن يحدث في أي يوم آخر لأن لؤي كيالي المبدع قد مات منذ زمن.

إن حوادث العنف وحوادث السير والحروب والمشاجرات وإطلاق النار في الأفراح حوادث مليئة بالضحايا. هذا كله تعودنا عليه.. أي أننا تعودنا على أن لا تعني حياة الإنسان لنا شيئاً (بقيت مرحلة صغيرة تصبح فيها حياة كل منا لا تعنيه ذاته).. صارت حياة الإنسان رقماً يدخل في باب الطرائف والمنوعات..

ولكن حين يسقط علم من حياتنا في حوادث من هذا النوع تجدنا مدفوعين بجرأة إلى النداء: اوقفوا هذه الحوادث لأنها افقدتنا علماً وحين تتمكن حياتنا المخزية من أن تضيع علينا موهبة مثل لؤي وقبل عشر سنوات من موته تجرؤ على النداء: اجعلوا الحياة من حولنا معقولة لكي نظل بشراً..

مات لؤي كيالي محترقاً، وكان قد عاش محترقاً.

تتأمل هذه الحياة الحافلة كلها وترى نهايتها فلا تجد إلا عزاءً واحداً.. الفنان الذي يموت يظل له وجوده الخاص متمثلاً في لوحاته الموزعة في بيوت لم يعرفها ولم يعرف أصحابها. ويظل له حضوره في الفن الذي خدمه والحياة التي خدمها هذا الفن..

ولعل هذا الكتاب(1) أن يكون جزءا من حضور لؤي المستمر بعد موته. لقد بذل صديقه الناقد ـ صلاح الدين محمد ـ جهوداً كبيرة لجمع كافة التفاصيل المتعلقة بحياة لؤي وفنه. ولابد أن القارئ سيلحظ هذا الجهد عند قراءته الكتاب.

ولا نستطيع أن نتوقع من صلاح الدين محمد إلا كتاباً من هذا المستوى، لأننا لم نعرفه في مقالاته في الصحف عن الفن التشكيلي إلا مجداً وملماً بموضوعه مما ميزه منذ مقالاته الأولى عن كثير من الكتاب الذي يتابعون الفن التشكيلي نقداً ومراجعة.. بل وقدمه إلى الصف الأول بين النقاد العرب.

وحين قرأت الصيغة الأولى لهذا الكتاب سررت لأنني وجدت فيه محاولة مخلصة لرد الاعتبار للؤي. وكانت لي ملاحظة قلتها لصلاح: جاهد أن لا يحس القارئ بصداقتك للؤي. لأن كتابك يجب أن يحافظ على موضوعيته.

ولا أعرف أن كان صلاح قد أخذ بملاحظتي.. لكني الآن أتساءل ما إذا كان يجب أن يأخذ بها.

إن الإخلاص للفن وحده لم يكن يكفي لبذل هذه الجهود التوثيقية والتفصيلية.. لابد أن الإخلاص للصديق قد امتزج بالاخلاص للفن.. فهل من الممكن أن لا يظهر الأمران معاً؟.. وهل يجب أن لا يظهر؟!..

أو ليست الصداقة هي التي جعلتني أقبل شاكراً أن أكتب تقديماً لكاتب في النقد الفني كان يجب أن يقدم له ناقد مختص غيري؟!..

في النهاية.. يقف لؤي بفنه.. ويقف صلاح بكتابه.. ونقف جميعاً أمام القراء.. والزمن..

Pages