كتاب " دفاعا عن الجنون - مقدمات " ، تأليف ممدوح عدوان ، والذي صدر عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
طوبى
طوبى للبطن الرافض حملاً كي لا يبقر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
كتاب " دفاعا عن الجنون - مقدمات " ، تأليف ممدوح عدوان ، والذي صدر عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
طوبى
طوبى للبطن الرافض حملاً كي لا يبقر
إن الفنان إذ يكتشف صفاءه.. يكتشف عكر العالم.. وتصطدم صلابة صفائه بصلابة العالم.. وهذا الاصطدام يولد الشرارة المضيئة للعالم: يولد الفن. ومن هنا وجب أن يكون الشعر نتاجاً ذاتياً بحتاً.. وقيمة الشعر تتحدد بصفاء الذات المولدة للشعر.. وبمدى مقدرتها على أن تكون (الكل): أي التربة التي تحوي جذور الناس.
هذه الشرارة احتراق داخلي.. ولابد لهذا الاحتراق من الخروج إلى المجموع لأنه ناجم عن الاصطدام بهم.. ولابد من الخروج بقوة تحددها رغبة الفنان في أن يكون مفيداً لهذا العالم.
وحين تقف العقبات أمام الفن تحتقن الشرارة في صدر الفنان وتشكل خطراً عليه.. ولذلك انتحر همنغواي وستيفان زفايخ وماياكوفسكي ولكي لا ينتحر شيلي وبايرون وجون اوزبورن هربوا من بلادهم.
إن الفن ينبع دائماً من هذا الصدام.. من الرغبة في أن لا يفقد الانسان صفاءه.. ويصبح هذا الهم ـ الذاتي ـ جذراً لهموم الناس جميعاً.. مهما تغيرت ظروفهم وشروطهم وأزمانهم وأمكنتهم. ولهذا تستمر قيمة المبدعين من أمثال شكسبير وكازانتزاكي والمتنبي والشريف الرضي والحطيئة. إن لديهم الشيء الذي يكمن في كل إنسان. لقد عالجوا هذا (الشيء) ضمن اطار ظروفهم ومراحلهم.. لكننا ما نزال نرى ملامحنا فيهم ومهما تغيرت الأزمة من حب إلى جوع إلى البحث عن عقيدة وإلى غير ذلك..
ولهذا، أيضاً، يموت الفن المهتم بالأمور اليومية وبالمشكلات السطحية. إن الفنان الحقيقي لا يهتم للملابس المتسخة.. بل يهتم للقذارة الكامنة في نقي العظام وللدماء المنتنة في الشرايين.. ولا يهتم لحاجة الإنسان إلى لفافة تبغ إلا إذا رأى فيها دليلاً على حاجته إلى الخبز والجنس والحرية والوجود الحقيقي. وقدرته على هذا الاهتمام ناجمة عن قدرته على رؤية ما لا يرى بالعين المجردة.. إن عينه مركبة.. ولذلك قد يرتمي الفنان في الوحل لكنه لا يفقد القدرة على رؤية عكر العالم.. ولذلك بقي رامبو والحطيئة فنانين أصيلين.
والفنان يعطي لأنه لا يستطيع إلا أن يعطي.. إنه لا يستطيع السكوت.. وعطاء الفنان كالجرب.. كلما حككته كان عليه أن تحكه أكثر ويصبح غير قادر على التوقف عن الحك.. والعطاء.. وحتى لو كان العطاء سابقاً لزمنه.
إن الشعر يكتب لأنه ليس بزمني. إنه قادر على خلق زمنه والشاعر يكتبه لأنه يصبح مثل حلاق الملك الذي كان الوحيد الذي يعرف بحقيقة أذني الملك بحكم مهنته (وكانت للملك أذنان كأذني الحمار). وخاف أن يقتله الملك إن تكلم، وضاق بما يعرف، إنه لا يستطيع احتباسه في صدره.. فمعرفته لا تعني شيئاً إن لم تصل للناس. لكنه يخاف القتل. فلجأ إلى شاطئ النهر. وأخذ يحفر كل يوم حفرة في رمال الشاطئ ويقول فيها: (للملك أذنان كأذني الحمار) ثم يردمها. ومرت الأيام فنبت القصب من هذه الحفر. وصار القصب، كلما مرت فيه الريح، يصيح: (للملك أذنان كأذني الحمار) فرغبة الحلاق في القول هي رغبة الشاعر في قول ما رآه من جديد.. إنها الرغبة التي جعلت أرخميدس يصرخ ـ رغم أنه كان وحيداً ـ (وجدتها).
هذه الرغبة هي التي تجعل الفنان يبحث عن الآخرين ـ رغم أنه ينساهم لحظة يخلو لعملية الخلق ـ إلا أن عملية الخلق ذاتها هي الدليل على البحث غير المباشر عنهم. وحين تختلف سمات الفنانين إنما تختلف باختلاف طرقهم في البحث عن الآخرين.. وفي البحث عن مادة مشتركة تصل الشرارة عن طريقها اليهم. لذلك كان البحث ـ إضافة إلى الكلمة عن التاريخ والفلوكلور والأسطورة والحوادث اليومية، لكن الفن نتاج (الإنسان) غير المشروط. لكنه في توجهه إلى الآخرين لابد له أن يمر بشروطهم. وإن كل تطور يلحق بالفن تكمن وراءه حقيقتان: البحث عن الذات الصافية والبحث عن الآخرين.
ويمتاز الفن عن غيره من الكتابات المعالجة بان الفنان حين يخلق ـ وخلقه دائماً صرخة غبطة أو تحذير أو احتجاج ـ إنما يخلق منطلقاً من أزمة. أنه (في) الأزمة ليعانيها و (خارج) الأزمة ليطرحها في نتاجه. إن الصرخة كصرخة أولئك الذين ابتنوا قصراً كبيراً على جبل ـ كما كتب الشاعر الأمريكي ستفين كرين ـ وحين وقفوا في الوادي ليتأملوه سقط عليهم فسحقهم. وقلة فقط هم الذين استطاعوا الصراخ. وهؤلاء هم الفنانون. إن قيمة صرختك تتحدد بمقدار ما تحوي من معاناة المجموع المعرض للسحق أو لأنك ترى القصر يهوي وهم لم يروه.. وبالتالي بمقدار ما تحويه صرختك من صدق في إنذارهم (وانذار نفسك) والفارق كبير بين من يصرخ لأن ثيابه ستتسخ وبين من يصرخ لأنه يواجه الموت. إن الناس يستمرون في سماع هذه الصرخة آلاف السنوات إذا كانت تحوي في داخلها ألما (إنسانياً) وإذا كانت دليلاً على التعلق بالحياة وعلى الرغبة في (الدفاع عن انسانية الانسان في هذا العالم).
ولكي تحتوي صرختك على صرخاتهم كلها يجب أن تكون ايجابياً ـ في الحدث ـ ومنفصلاً عنه. فالتفاعل الايجابي من الأمور هو عملية اكتساب حرارة، لكنه، بالمقابل عملية تقليص الرؤية. هناك خشية دائمة من أن تتحول إلى جزء بين مجموعة الأجزاء.. إلى جندي في العرض الكبير فالمشترك في العرض غير قادر على رؤية العرض ككل.. عليك أن تبعد قليلاً لئلا يجرفك التيار.. على أن لا تبتعد إلى الحد الذي يفقدك البعد المقدرة على الرؤية أيضاً. أي أنك ستحاول أن تبقى في العرض وأن تبتعد عنه. كأنك تريد أن تراقب غضبك في المرآة. إن غضبك المنفعل يتلاشى مع المراقبة الواعية. وعليك أن تصفو بحيث يصبح الغضب منبثقاً من وعي. يصبح غضباً واعياً يمكنك مشاهدته في المرآة. وهذه معجزة الفن.
الرغبة في الوصول إلى الناس هي سر اهتمام الناس بالفن. كما أن الفن من خلال هذه الرغبة يحدد وظيفته غير أن الرغبة في الوصول إلى الآخرين حين تصبح تسابقاً. يسقط الفن. إن البحث عن القارئ قد قاد إلى التدجيل عليه. فوقع القارئ والفنان والفن ضحايا هذا البحث.
لقد أقيم جدار بين الجيل والفنان وبين الأفكار الجديدة الجادة. هذا الجدار هو السطحية.. هو تعويد القارئ على القراءة السهلة اللامسؤولة. وهذا يفسر لنا سرعة انتشار القصص الجنسية والبوليسية. ويفسر لنا أكثر تدفق أكثر من مئة الف قصيدة حول النكبة الفلسطينية لم تستطع أن تضيف شيئاً إلى وعي الناس أو إلى تطور الفن إذا لم نقل أنها اعاقت هذا التطور. هذا النوع من النتاج كان يعتمد على الاطمئنان إلى القارئ أو التدجيل عليه أو الاستهزاء به. او استجداء تصفيقه. بحيث استطاع هذا النوع أن يهيمن على السوق الأدبية وأن يطغى على عقول الناس.
لكن هذا (الفن) إن صحت التسمية ـ قد تحول إلى وسيلة لتعطيل قدرة انساننا العربي على التفكير والتطور.
إن القارئ لم يواجه بالحقيقة بعد. ولذلك ضاع الشعر والقارئ معاً. ولابد من المواجهة والاحتمال. لابد من الصبر وبذل الجهود للوصول إلى فن حقيقي من خلال قارئ حقيقي.
17 ـ 9 ـ 1967