التفاحة النهرية، مجموعة قصصية للكاتب الفلسطيني محمد نفاع، الصادرة عن دار راية للنشر والتوزيع- حيفا، تحمل في طياتها ذكريات طفولة الكاتب من حياة القرويين مؤكدا ان مأساة الترحيل والطرد من البلاد وآلاف المواطنين يمرون من وسط بلده بيت جن في طريقهم الى لبنان ما ز
You are here
قراءة كتاب التفاحة النهرية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 2
يبدو أن أحدهم يغرق في حلم، راح يتجاذب معه أطراف الحديث،كلمات ممطوطة وأحرف متآكلة ومقاطع شخير. وضحكات خافتة من الآخرين. وثانٍ يمضغُ وهو في عزّ النوم ويتلذّذ.
_ "يمكن بلا عشا"!
أنا لا أعرف النوم في مثل هذه الحالات.أقضي ساعات أتلقف روعة هذا العالم الليلي الغابيّ ومخاطره وما تقذفُ أشداقه من خشّاتٍ وحركات مجهولة رائعة الوقعِ. ومن خلال الأغصان مقطعا من درب التبانات والنجوم المؤنسة السحيقة والقمر المتأخر المتطوّر المتلاشي.
وهناك من جهة المعتدين صمتٌ مُطبقٌ وظلام ولهذا السكون رنين وصدى مُتموّجٌ متواصل، يندفع الى السمع بحدّةٍ وإصرار، قد يكون صوت الليل والنجوم وصحن السماء ودرب التبانات وزفير الأرض ولظى النهار وشهيق المغاور والكهوف وأنفاس الأودية وخفق البحر وغبار الحصاد ودموع العشّاق.
وللطبيعة بغمٌ مُطلسمٌ غزيرٌ في مجهوله ورهيب وأنا أنصت بإجلال الى الصدى والذكريات.. وسرح نظري هناك الى تلك الخلّة الصغيرة المعتمة القابعة في ذلك الموقع، بين أحضان الغابة السوداء.
مضت أيامٌ وأعوام على ذلك اليوم. كان الطقس ربيعيّاً مُشمسًا طريّاً، وقد أنبتتِ الأرض موسمًا عارمًا دافقًا من الزرع والعشب الزهريّ الفواح، وأنا أنتظر هناك والوقت يمشي على مهله..
هكذا أنتنَ يا معشر النساء، لا تأتي الواحدة في الميعاد إلا بعد طلوع الروح. عجيبة هذه الموهبة لديكنّ وهذا الدأبُ والسلاح. رحتُ أتلهّى بقضم القش وعدّ الحصى وحومات الغيم الأبيض الذي يُنمّر السماء عالياً بأشكال وأحجام مختلفة منوّعة في عُلوٍّ شاهق، وحدأة تطير هناك وتكاد تلامسه، غريب هذا الطير في وصوله وتجواله بين تلافيف وفجوات الغيم الأبيض الرفيع. وقبّرة تستحم في ذرى الجو وتلغط بحماس ونشوة كحديث الغطمس للوليد، يضحك ويتفعفل بيديه ورجليه ويصدح بتلك النبرات الهائلة الفتّانة ويخاطب شيئًا غامضًا مجهولًا غيرمرئيّ، وعيون الأم تُرغرغُ حُبّاً وسعادة.
البلدة بعيدة من هنا، مشيُ ساعة للمستعجل، نزلة الغدير وطلعة الزرب وعقبة الحمار والزابود، ثم لتطلّ على الزرعات وبعدها تأتي. وأنا بكّرتُ المجيء والانتظار هنا في خلّة الـ..
أرض متطاولة وسط الوعر، لها مدخل واحد ضيّق ومن بقيّة الجهات وعر زرْدٍ مُغلق.
الانتظار صعبٌ مقيت، وأنا أجد لها الأعذار، عملتُ صفارةً من قش الصياح الطويل الذي يظل يلوح ويخفق برؤوسه السنبيلّة المحنيّة جماعات كالنادبات. والوقت يمر والهدوء ثقيل.
تطايرت العصافير من تلك الجهة مزقزقةً وقفز أرنب هارب من هناك، وقف على قائمتيه الخلفيّتين ونظر برعب الى الناحية، وزعق شحرور بصخب، إن أحدا نكّر هذه الطيور، إنها هي، لكنها لا تزال بعيدة، عليها أن تقطع مسافة كافية حول الأرض الطويلة المغلقة. وعاد الهدوء، وأغصان الشجر ترتشفُ الدفء والنور بشهيّة، رائعة حيّة هذه اللحظات، وأنتَ تكادُ ترى القادم والآتي، سرى خدرٌ لذيذٌ في رأسي ، وألحان السكون المتموّجة تتدافعُ وتقتحمُ.تحرّكَ غصنٌ كبيرٌ هناكَ، ارتجف رجفاتٍ قصيرة عنوةً عن بقية الشجر الغارق في الصمت. ومرّة أخرى تلاه سكون صارم قاسٍ، إنها هناك، تتفحّص المكان قبل أن تلجَ في هذا الخليج الأرضيّ الرحب، إنها هناك تَقفرُ الدروب الوعرية والمسارب المتعرجة، فهي نكحةٌ هيّابةٌ بشكل رهيب كعصفور الدوري.غريب أمر هذا الطير، لا يأنس إلا بالناس، يعيش في العَمار ويتجنّب الخراب، يعشّشُ في السطوح والشجر قرب الدور، يسطو على الحبوب المنشورة ويتقاسم العلف مع الدجاج، ومع ذلك فهو نَكِحٌ صعبُ المنال، قلّما يُصطاد، رائع هذا الطير المُبكّل على عنقه بالسواد الأدغم الخفيف.
حطّ هدهدٌ وحيد. دائمًا تراه وحيداً على قلّته. مكث لحظات قصيرة ورشقَ المكان بحذر، ثم أطلق تغريدًا صافرًا أجوف وغادر المكان الى الشمال بطيرانه الهادئ المُتموّج المعروف، انفلتت أغصان السنديان الغامق من جديد.. وأطلّت ترقب الأرض الفجاج بمشية حذرة وجلة مستحيّة كمن تشاور عقلها هل تكمل المشوار؟
أطلقتُ صفرةً بالصياح وهي العلامة والإشارة، بدا عليها كمن جفلت وتضايقت، راوحت في مكانها ثم تقدّمت مسرعة واثقة.
- "طلّيت على الزرعات، القمح ملان عشب"!
قمحاوية مع حُمرة خفيفة دائمة على الخدّين. طويلة جسيمة بعض الشيء، وصوتها فيه نتفةٌ من الغلظة، بل "نتّوفة" فتّانة منها.
وقعدت بعيداً عنّي، وهذا مؤكّد مفروغ منه، والآن ندخل في فصل البدايات والمقدمات والمحاولات، هذه الأمور تضايقني، حقيقةً، لكنّ التمنّع غريزة وموهبة غامضة عامّة لديهنّ، فقط ألا يكون هنالك مبالغة وعتاب طويل طويل مديد.. عينان واسعتان حييّتان دائما، إعفوني من الولوج في وصف لونهما لئلا يفوح الخبر وتقع واقعة.
فستان زيتيّ أخضر كاشح عتيق، ولباس أسود طويل، وفوطة مدعوكة منسلّة معقودة على العنق، معرقة كزهر الطيون، مكثنا ساعة قصيرة، أسترق النظر وأعيش اللقاء الموشك، وأنسج خيالاً رحبًا، و"أتحلفص" وأزحف حذراً للتقرّب وأنا أراقب تبعة ذلك.