كتاب " أكواخ الظلام " ، تأليف عبدالله بن علي السعد ، والذي صدر عن
قراءة كتاب أكواخ الظلام
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
- أعني أن هناك قلوباً إذا رأيتها شعرت أنها تعيش خارج هذا العالم.. ترضى من الدنيا بالفتات.. وتسير على الشوك بكل إيثار وتضحية بينما يدوس الماشون بكل صلف وعنجهية على جسدها الطاهر.
انشغلت بالرد عنه بتفكير عميق في طوايا حديثه سارحاً في مراقبة قطرات الماء وهي تسقط على الزجاج ولم أفق من تأملاتي إلا مع توقّف السيارة، فخرجت منها واضعاً يدي فوق رأسي لأحتمي من المطر المتساقط.. فاجأتني حينها ضحكة خفيفة صدرت عن إبراهيم الذي بدا سعيداً للغاية.. ثم جرينا في اتجاه بناء قديم يتألف من طابق واحد.. قرع صديقي بابه، فجاء من الداخل صوت امرأة عجوز:
- من؟
- هذا أنا يا جدة.. إبراهيم.
فتح الباب وأطل وجه امرأة كنت أصفها بالعجوز.. ولكن التجاعيد التي في وجهها كانت تعني أشياء أخرى.. شعرت لأول نظرة بقشعريرة تسري في جسدي.. ونسيت المطر والهواء.. وبقيت أتأمل في الوجه الذي أمامي.. والابتسامة الخالية من الأسنان التي رسمت على وجهها يوم رأت إبراهيم.. والدعوات العامية التي أخذت تنطلق من فمها.. ومزيج غريب من المشاعر.. كأنني واقف أمام تاريخ أمة.. يكشف عنه منظر امرأة مكافحة خطّت الأعوام الأليمة توقيعها في غضون وجهها وتجاعيده، وملامحه الطيبة.. تلك التجاعيد كانت ثمرة بضعة وثمانين عاماً.
دخلنا وعرفها إبراهيم بي. ولكن بدا لي أنها لم تستوعب من أكون.. بقيت أتأمل منزلها.. كان عبارة عن حجرة مربعة توسط الباب جانباً منها يطل على الشارع مباشرة.. وإلى يمين الباب تقبع خزانة ملابس حديدية قديمة.. وسرير مخصّص للنوم والاستراحة وضعت فوقه عدة طبقات من القطن، وبجواره طاولة صغيرة صُفّت فوقها أنواع من الأدوية.. وفي الجزء الأيسر من الغرفة، ترى الجدار وقد قُسِّم قسمين ووضعت ستارة على قسم منه ليكون دورة مياه، وبقي الجزء الأخير من الغرفة، لبعض الأواني القديمة إضافة إلى موقد غاز من النوع الذي يستعمل في الرحلات.
انتهت الزيارة بسيل متدفق من الدعوات الصادقة نفحتنا بها تلك الأم الرؤوم في وداعنا كما كانت في استقبالنا ليبقى ندى صوتها الأثير وسحائب دعواتها الصادقة مدداً ينبت أفنان الطمأنينة في نفوسنا.. وبقيت الجدة توصي إبراهيم أن يبلغ السلام لأمه الميتة.. وهو يجيبها إن شاء الله فقط اهتمي بنفسك وسأمر عليك في وقت آخر.. وخرجنا في حين كانت قطرات المطر في الشارع المظلم بدأت تخف فيلامس رذاذها بشرتي ليحملني إلى عالم بعيدٍ حالم.
- لماذا لا تتكلم؟
- .. .. اكتفيت بنظرة إلى الشارع المظلم.
- أين وصلت؟
- لم أكن أتوقع أن يكون وضعها بهذه الصورة.
- أتدري يا عبدالله.. هناك أناس آخرون ربما كانوا أسوأ وضعاً منها.
- كيف؟.. وأين أهلها؟
ابتسم إبراهيم في أسى..
- أهلها؟. اسمع يا أخي.. للجدة فوزية ابنان.. أحدهما فقير مشغول بحاله.. والآخر...
- والأخر ما به..؟؟
- الآخر يخجل منها.. وبناته لا يريدونها بينهم.
صعقتني الكلمة.. فلم أكن أتصور أن يكون لها أبناء ويتركونها.. فكيف إذا كان سبب الترك الخجل منها لأنها فقيرة.
- ماذا تقول؟
- أقول لك لا يمكن أن أصدق أن هذا هو السبب.. ولا يمكن أن يفكر أحد أن يترك أمه لأنها فقيرة.
- ضحك إبراهيم.. أنت طيب يا عبدالله.. بعض الناس لا يفكرون كما تفكر أنت.
لم أرد عليه.. وبقيت مع المرأة العجوز..