كتاب " الخراف الضالة " ، للمؤلف أحمد جمعة ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب
You are here
قراءة كتاب الخراف الضالة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أنا العابر مع الريح حينما تجتاحني رغبة الهوى ويحملني العقل الواسع والخيال الجامح على تجاوز المنحدر الرمادي، لا أكتفي بالسفوح مثلما تفعلون حين اكتفيتم بتجميد عقلكم الفضفاض في كهف مظلم ولم تسعفوه إلا في السعي لإيذاء بعضكم بعضاً، قرأتم القرآن ولم تتغيروا وغرقتم في الكلام واكتفيتم بالبؤس ينهبكم في مراسم تهرول بكم إلى قاع المدن الخاملة تلك التي استوطنت الكسل والخضوع واستجداء التفاصيل الرثة لحياتكم الرتيبة.
«هذا أنا سعد بن محمد الناصر.. واختصاري سعد بن ناصر.. تذكروني منذ الآن وصاعداً، فقد أسهمت في صنع المحنة التي مرت بالبلاد كما أسهمت في حلها، تذكروا ما فعلته في الماضي وقارنوا بما قمت به اليوم».
قطعت وعداً بمسافات يكتنفها الذهول ألا أترك الحياة بقامتها تمر بأشواكها المتنائية إلا وأعصرها كالليمونة حتى يَهَن العظم مني ويشتعل الرأس شيباً قبل أن أسقط عند رصيف الوقت، فكل شيء من حولي يغريني بامتصاص ما ألتقطه أمامي، أموال، نساء، وحوش وشياطين، ملائكة، كانت المشاعر مفتوحة على الكون والسعادة أصنعها متى أشاء، وكان عالمي الأسطوري تجري فيه الأحداث سريعة الإيقاع ويختلط الألم بالفرح بالحزن فتنقلب الدنيا رأساً على عقب كلما التقيت في طريقي حدثاً دامياً تتغير في إثره خطواتي، فمنذ دأبت في مغادرة السواحل والشواطئ الموبوءة بروائح الأسماك وهجرت الأحياء الفقيرة الكئيبة جرت العادة في البحث عن موسيقى ترتقي بي إلى سموات عليا أشبه ما أكون فيها بالنبي المخطئ الملتجئ إلى بوتقة الغفران لنسيان الماضي وصنع الفردوس الأرضي المتمثل في المال والنساء والسلطة والنفوذ، حيث السيارات والأسهم والعقارات الموزعة بأرجاء البلاد خصوصاً تلك الموزعة على الجزر الصناعية وكانت رقعة أمواج هي مسقط رأسي بعدما تركت أحياء المحرق الصغيرة الضيقة التي لا تجد فيها حتى بقعة لركن السيارة، رحت أختار الأراضي والمناطق بحسب رغبتي في العيش برفاهية تتناسب مع مكانتي الاجتماعية الجديدة، فقد ولد بداخلي نبي جديد وشيطان جديد ودأبت في الضحك من أولئك الذين ما فتئوا يبتسمون للحظ الذي يتوسل عند بوابات المدن العاقرة، ما كنت أنتظر الحظ، فقد غيرت الأحداث بتوجيه الأشرعة لمصلحتي وعبرت الطريق المختصرة التي لم يعد يشبعني فيها منصب الوزير أو النائب ولذلك خططت استراتيجية بموجبها حرضت الكثير منكم على التقاط الطعم الذي ألقيت به نحوكم للوصول إلى المناصب لتسهيل خدماتكم لي من حيث تجهلون، ولن أخبركم الآن فأنا العصي يزهو بسقوف من قرميد السماء لأقص عليكم من آيات المدن المسفوحة بالرجس لتكتمل نبوءة الجنة المحرمة على كل من خذلته فراديس الصيام المجبولة على الكسل، كسرت الطوق وحررت نفسي من القيود المسكونة بالركوع، لم أركع لقيودي، لهذا كله صنعت حكايتي هذه التي تسبح الآن أمامكم في محراب جنة الملذات والعذابات تفوح منها أنفاس ريح المسك ونكهة النبيذ الأزلي.
كنت في سن العاشرة على ما أظن عندما أمسكت بي امرأة غير بهيجة قارب عمرها الستين واشتعل طرفا رأسها شيباً، لا أعرفها ورجتني حمل طفلها الرضيع حتى باب الدار، وقد تجاهلت طلبها ومنذ ذلك الحين عرفت أسرار النجاح، وحتى تكون ناجحاً وتقطع طريقك بوضوح لا يحتاج الأمر منك إلى العاطفة السمجة التي إذا ما امتلكت مشاعرك لن تفلح بعدها في السير بطريقك المرسوم، من يومها عرفت كيف هي القسوة التي تصاغ بها معادن الرجال، بعد تلك الحادثة وكلما امتد بي العمر ازددت رفضاً لنداء العاطفة البغيضة عدوة النجاح حتى تمكنت أخيراً من سحقها بداخلي، ضاجعت عشرات النساء، بين صديقات ورفيقات وعشيقات وعاهرات ومن مختلف الجنسيات، من بيضاء وسمراء وسوداء، إلى مطلّقة ومتزوجة ومن لم تتزوج، من عذراء إلى «مفتوحة»، عاشرتهن من الأمام والخلف لم أترك امرأة رغبت فيها ولم أسمح لامرأة تفطر قلبي، من لم تأتِ بالحب جاءت بالمال وبعد تجربتي مع كل هؤلاء النسوة لم أجد ما يسمى المرأة القبيحة أو الكريهة، كل النساء جميلات وكلهن رائعات في الفراش أو على الأرض وفي السيارة وحتى عند نقاط العبور مصادفة، كانت المرأة أجمل الأشياء التي مرت بحياتي على الإطلاق فهي ملح الأرض وهي المسكِّن للآلام شرط ألّا تقربها أكثر من المسافة الرسمية للعلاقة وأن لا تتركها فوقك فهذا أسوأ ما يحدث لك كرجل، أعرف أني محتقر من بعض النسوة ممن ألقي بأيديهن بعض أوراق النقد ورغم ذلك يعدن إلي، هذا هو السحر الذي يسكن الألم، واحدة فقط من جنسية أوكرانية تدعى «لونا» خرجت على المألوف وكافأتها بإنسانية.
الطقس عنى لي الكثير حينما تنتزعني تغييراته من سكوني وتقذف بي في أجواء تختلط بمشاعر الكره والحب والحزن والفرح، بين وحدة كئيبة وعزلة سعيدة، كنت أختار أوقاتي بنفسي وأفهم حيرتي وأخطو بحسب رغبتي، لقد وجهتني طفولتي الشقية إلى خوض معارك الحياة بجدارة ولا أنسى تلك الرقعة الزمنية التي كانت مثل الطفرة الشيطانية التي خرجنا منها شياطين صغاراً لنصبح فيما بعد الشياطين الحقيقيين الذين يستولون على هذا العالم.
عبث الصغار لا يختلف عن عبث الكبار، البحر كان يغوينا مثلما سيندرج الكبار، تبدأ حملاتنا لصيد الأسماك ونحن في سن العاشرة والحادية عشرة حينما لم تكن أحلامنا سوى صورتنا تنعكس على سطح مياه البحر الساخنة صيفاً أو الباردة شتاءً، فلم تقيدنا الفصول عن الخوض في غمارها الدكناء، كان شغفنا بالبحر والأسماك وشغبنا مع الفتيات بأعمارنا لا يترك لنا شقاوة لم نمارسها، كنا نغوص في الأسفل ونقترب من الفتيات ونسرق النظر من تحت فساتينهن القصيرة حين تقشعها مياه البحر إلى الأعلى فتسرقنا لذة سريعة وفضول لملامسة تلك السيقان والأفخاذ الطرية السمراء والبيضاء، من يومها اكتشفنا أسرار الاستمناء التي فتحت لنا أبواب جنة اللذة الجارفة وهي تصعد بنا إلى رجولة مبكرة تعود إلى سلالة الرجال الشغوفين بنرجسية السندباد.
المحاري اللون وهو يطوف البحار جسوراً بلا فزع من ظلمة أو خشية من غرق تستدرجنا عواصف مقفرة الوجهة فنغوص في عتمة الموج والريح، تتصاعد أنفاسنا كلما اقترب شبح الموت الأزرق مطبوعاً على الوجوه بلا وجل حتى إذا ما لامسنا ضفاف اليابسة تقهرنا بإرادتنا نساء ممشوقات بأجساد لؤلئية فتزيل عنا صدأ البحر والغربة والسكون.