رواية " الرفيقة وداد " ، تأليف عماد محمود الأمين ، والتي صدرت عن
You are here
قراءة كتاب الرفيقة وداد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ـ 1 ـ
استيقظ برهوم من نومه في الخامسة صباحاً، مُبكراً على غير عادته، وقد أمضى تلك اللّيلة الممطرة من تشرين الأول 1954 بين النائم والمستيقظ، يتقلّب من جهة إلى أخرى، بعد أيامٍ عصيبة، لازمتهُ فيها، كظلّه، حالةٌ من الاضطراب والقلق.
نهض من فراشه ولبس ثيابه على عجل، ثمَّ بدأ يذرع الغرفة ذهاباً وإياباً على الحصيرة المستطيلة الّتي تفصله وأخاه عن الجهة المقابلة حيث تنام أخواته الخمس، مُفترشاتٍ الأرض، وغامِراتٍ رؤوسهنَّ بالأغطية من شدّة البرد. وتمنّى لو يستطيع الدّخول إلى قاعة الاستقبال الواسعة فيتحرّك على راحته. ولكنَّ والدته كانت قد أقفلتها قبل أن تأويَ إلى الفراش، لتحافظَ عليها مرتّبةً وجاهزةً لاستقبال الزّوار. هذا إذا كان الخبر سعيداً.
لماذا كلُّ هذا الخوف؟ فهذه ليست المباراة الأولى الّتي تجري في لبنان لتعيين مدرّسين رسميّين. لقد سبقتها مباراةٌ في أوّل السّنة، ونجح فيها جارهم الّذي وإن كان يكبره بسبع سنوات، فقد كان دونه معرفةً باللّغة العربيّة والرّياضيّات، وأيضاً، هو على ثقةٍ بل على يقين من نجاحه.
هل أنهكتْه هذه الشّهور من الانتظار منذ تاريخ المباراة في الصّيف، وجعلتْه يبدأ بفقدان الثّقة في نفسه؟ شعر للمرّة الأولى في حياته كم أن الانتظار يدفع إلى الشّكِّ حتى باليقين.
عندما ذهب عمّه، منذ يوميْن، إلى بيروت ليأتيَ بالنّتيجة، أخبره أنّه سيرجع متأخّراً هذا الصّباح، لأنّه يجب أن يُغيِّرَ البوسطة في مدينة صور، وهذا يعني صعوبة معرفة موعد وصوله بالضبط، لأن عليه أن ينتظر اكتمال ركّاب البوسطة. ومع هذا، ها هو يفقد صبره ويندب حظّه الّذي رماه في هذه القرية البعيدة كلَّ هذا البعد عن العاصمة.
وظلَّ برهوم يتنقّل ساعاتٍ بين المشي السّريع في الغرفة والعودة إلى الفراش محاولاً النّوم، إلى أن سمعَ زقزقة العصافير تتعالى، مؤذنةً بتوقّف المطر، فانتعل حذاءه بسرعةٍ وخرج، ثمَّ اجتاز باب الحديقة غير آبهٍ بالماء الذي يبلّل أصابع رجليْه عبر الحذاء الذي ورثه منذ سنواتٍ عن خاله، والمثقل بسنينٍ طويلةٍ من الدّعك في البراري.
حثَّ الخطى مسرعاً باتّجاه السّاحة حيث تتوقّف البوسطة عادةً، وكان أوّل الواصلين، فقصد شجرة السّرو الوارفة في طرف السّاحة. أخرج من جيب سترته الدّاخليّة ورقة جريدةٍ فيها بعض التّبغ المفروم، ولفَّ سيجارته وهو ينظر ذات اليمين وذات اليسار، خوفاً من أعين الواشين، وأتى على آخرها بسرعةٍ كمن يلتهمها، ثمَّ رجع إلى وسط السّاحة.
تباعاً، وصل رجالٌ كُثُر، هذا الّذي كان أوصى أحد المسافرين على دواءٍ من بيروت، وذاك الّذي ينتظر رسالةً من المهجر. أمّا أكثر الوافدين فقد جاؤوا لتبادل الأحاديث والأخبار، ولانتظار البوسطة ليس إلّا. إنها البوسطة الّتي يشكّل قدومها الأسبوعيُّ إلى القرية حدثاً في حدِّ ذاته. وما إن سمع برهوم هديرها آتياً من بعيد، حتّى وجم قلبه ورجع إلى تحت شجرة السّرو يختبئ من شماتة الناس في حال لم يحالفه الحظّ.
ما هي إلّا دقائقَ حتّى رأى عمّه يترجّل، مُحيّياً بسرعةٍ الرّجال المتجمهرين عند باب البوسطة. وما إن لمح برهوم تحت الشّجرة يتوثّب كلصٍّ يخاف انكشاف أمره، حتّى توجّه صوبه مباشرة، ومع كلِّ خطوةٍ كان يخطوها، كانت دقّات قلب برهوم تزداد سرعةً وقوّةً وتختلج في كلِّ ناحيةٍ من صدره، كصدى طبلٍ يَضرِبُ عليه طبّالٌ غاضب. ولم تعد رجلاه تحملانه، فاتّكأ على الشّجرة ناظراً صوب عمّه. جمّع عينيْه وقلّصهما قدر المستطاع، حتّى بدتا كثقبيِّ إبرة، محاولاً أن يستبينَ اختلاجات تقاسيم وجه عمّه، إلى أن رأى بسمةً تفترُّ عنها شفتاه، فأيقن أنّه نجح في الامتحان. ولم يطلِ انتظاره إلّا ثوانيَ، فقد سحب عمّه ورقةً مطويّةً من الجيب الدّاخليِّ لسترته ولوّح بها عالياً.