أدركت أن للحكاية في حياة الطفل سحراً تربوياً كبيراً وفائدة تعليمية لا تبارى. فهي تنمي خيال الأطفال وتصقل نفوسهم وترهف أحاسيسهم.
You are here
قراءة كتاب الدومري حكايا شعبية من حي الصالحية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 2
مقدمة..
سحر الحكاية التربوي وفائدتها التعليمية
ليس من الصعب على المرء أن يعود بذاكرته خمسة عقود إلى الوراء ولكن من الصعب عليه أن يتذكر دقائق الأحداث التي مرت في تلك العقود المنْصرمة. ولا غرو في هذا إذا ما تذكرنا أن الإنسان قد ينسى كثيراً من عظائم الأمور التي غالباً ما يطويها بساط الزمن، ويغلفها صدأ السنين، وتمحوها نعمة النسيان. ولئن نسيتُ فلن أنسى تلك القصص الحية التي كانت جدتي لأمي ترويها لنا. وتلك الحكايات الجميلة التي كانت والدتي تقصها علينا. وكيف أنساها وقد حُفرت حروفها في أعماق نفسي وذاكرتي، وطُبعت صورها في كياني ووجداني.. وإن نسيتُ نفسي فسوف لن أنسى تلك السهرات الحلوة التي كنا نعيشها في فناء الدار إلى جوار شجيرات الورد والياسمين، وتحت ظلال دالية العنب. هناك في فناء بيتنا العربي أو في المخدع الكبير كنا نتحلق حول جدتي لتقص علينا قصة مرت في حياتها، أو مغامرة بطولية وقفت بها في وجه جنود الأتراك أو الألمان أو الفرنسيين وهم يقومون بجولاتهم التفتيشية عن المجندين الفارين من الخدمة العسكرية (العُصملية)، أو عن الأسلحة المخبأة في البيوت، أو عن الثوار المتوارين عن أنظار السلطة المستعمرة. وإني لأتخيلها الآن كيف كانت تصور لنا المواقف التي تتحدث عنها فتخفض من صوتها تارة وترفعه تارة أخرى، فينتابنا الخوف حين يتحول الكلام إلى همسات نكاد لانسمعها.. ويخيم علينا الصمت المرعب، وفجأة تصرخ بأعلى صوتها كاللبوة إذا ما دنا منها خطر لتذود عن عرينها وتحمي صغارها.. فترتد إلينا الروح وتعاودنا الشجاعة، وتخفق قلوبنا الصغيرة من جديد مزهوة بوقفة جدتنا البطلة التي تمتلك من الشجاعة القدر الكبير ومن القوة ما لايمتلكه الرجال. وكنا إذا ما فرغنا من سماع رواية جدتي البطولية التقينا مع قصة يرويها لنا والدي أو حكاية لطيفة تبدأ بها والدتي. وهكذا كنا «أنا وإخوتي» نلتف حول أمي وأبي وجدتي نعيش أمسيات بحكايات الماضي (كان يا ما كان.. كان في قديم الزمان) حكايات لن أنساها ما حييت.. حكايات فرحت بها كثيراً وبكيت لها كثيراً.. حكايات نَسجْتُ في مخيلتي لكل منها صورة ملونة رائعة لا أحلى ولا أجمل.
وعليه فقد أدركت أن للحكاية في حياة الطفل سحراً تربوياً كبيراً وفائدة تعليمية لا تبارى. فهي تنمي خيال الأطفال وتصقل نفوسهم وترهف أحاسيسهم. فحينما يسمع الطفل حكاية من حكايات الماضي تناسب سنه وتشبع تطلعاته وترضي هواه، ولا سيما إذا كان من يسردها عليه راوياً مبدعاً أو راوية عذبة الحديث حلوة الأسلوب. غالباً ما يندمج هذا الطفل في أحداث القصة التي يسمعها ويُقحم نفسه بين ثناياها فيتخيل شخصيات الحكاية ويضع لكل منها في ذهنه صورة تتفق مع خياله وتناسب القصة التي يسمعها. فإذا كان هذا الطفل ذا خيال خصب، يتقمص إحدى الشخصيات التي أحبها أو التي تلائم وضعه الجسدي أو حالته النفسية، فالصبي مثلاً يستمع إلى حكاية «الشاطر حسن» فيتصور نفسه أنه هو الشاطر حسن والبنت التي تستمع إلى حكاية «الأميرة ست البدور» غالباً ما تتخيل نفسها أنها هي الأميرة ست البدور.
وهكذا يعيش الأطفال أحداث الحكايات التي يسمعونها ويتعايشون مع شخصياتها، فتتحول الحكاية في مخيلتهم إلى فيلم رائع الإخراج، يتنقلون مع أبطاله في البراري والسهول.. يصعدون الجبال معهم ويهبطون الوديان.. يحاكون العصافير ويمتطون الأحصنة المجنحة ويسابقون الطيور على بساط الريح.. يغوصون مع الأسماك أعماق البحار ويعتلون ظهور التماسيح ويقفزون مع الضفادع فوق المروج.. يدخلون أجمل القصور الأسطورية بطاقية الإخفاء السحرية ويقتحمون بها أعتى القلاع وأمنع الحصون، فيلعبون مع الأقزام ويصارعون العمالقة فيجندلونَهم بأيديهم الصغيرة وسواعدهم الغضة ذات القوة الخارقة.
وهكذا تسهم الأم بحكاياتها «من حيث تدري أو لا تدري» في صنع أجيال المستقبل، فترضعهم مع حليبها الحب والحنان وعمل الخير، والعكس صحيح إذا أساءت الأم الاختيار وأخطأت في التوجيه. وأخيراً نستطيع القول: إن للحكايات الجيدة المنتقى، المدروسة القصد والهدف، الحسنة الحبكة والسرد والتوجيه، سحراً تربوياً كبيراً نستطيع أن ننشئ بواسطته جيلاً خلاقاً بأفكاره، مبدعاً بإنتاجه، شجاعاً جسوراً بخطواته. وهكذا بدءاً من حكاية الأم لأبنائها وهم في مهدهم تغذيهم مع حليبها المزايا الجيدة والصفات الحميدة والخصال الحسنة، وانتهاءً بالحكاية المسموعة أو القصة المقروءة أو المرئية، يمكننا أن نعلم أبناءنا: الصدق والأمانة والإقدام والمروءة والصبر والجلد والعزم والتصْميم والطاعة حتى النظام والنظافة والترتيب فلكل من هذه المزايا حكايات فلننتق منها ما يفيد، ولنأخذ من بينها الهادف والمناسب.
فريد دحدوح