لقد قررت إعادة طباعة كتابي "التوحيد في تطوره التاريخي" التوحيد يمان وما كنت أعلم أن هذه التسمية ستصبح واقعاً بإرادة الله، وبعد ما أحدثه جلّ وعلا من متغيرات في وجداني في لحظات، وفي ليلة جليلة مباركة، صحوت على أثرها وأنا إنسان آخر، وكانت لدي الشجاعة الكافية ا
You are here
قراءة كتاب التوحيد في تطوره التاريخي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
إن الدين من وجهة نظر المادية ممثلة بالانتروبولوجية عند فيورباخ "ليس سوى علاقة عاطفية، علاقة قلوب البشر فيما بينها، والتي ما تزال تبحث حتى اليوم عن حقيقتها في انعكاس للواقع بواسطة إله واحد أو آلهة متعددة". ويستمر فيورباخ في تعريفه للدين في محاولة لتبسيطه فيقول "الدين شعر"، ذلك أنه يعتقد أن الإيمان ما هو إلا نتاج الخيال. وينطلق فيورباخ في تعريفاته تلك من فهمه للدين وعلاقته بالإنسان فيقول: "أن الدين يجعل من الإنسان غريباً عن نفسه ويشطر العالم إلى عالم ديني، موضوع للتمثيل، وعالم واقعي دنيوي" (1)... ويرى أن عمل الدين يقوم على جر العالم الديني إلى قاعدته الدنيوية، وهو في ذلك لا يقيم علاقة بين العالمين. ولذلك فإن الشعور الديني أو التدين، عند فيورباخ، ليس نتاجاً اجتماعياً بل هو شيء قائم بذاته.
أما المادية الجدلية فقد انطلقت من واقع الإنسان المادي في تعريف الدين والمفاهيم والقيم... فالوعي والأفكار والتصورات مرتبطة ارتباطاً مباشراً وصحيحاً بنشاط البشر المادي وبصلاتهم المادية ببعض سواء أكانت اقتصادية أو ثقافية أو سياسية، وهي ليست سوى انبثاق مباشر من مجمل سلوكهم المادي ذاك (2).
ومن هنا فإن الانطلاق في معرفة الدين إنما يأتي عن طريق معرفة نشاط الناس الواقعي، ووفق صيرورة حياتهم وما العقائد إلا أصداء للحياة الواقعية حتى في صورتها البدائية المتمثلة في التخيلات الوهمية والسحر والشعوذة والأساطير فجميعها ليس سوى تنفيسات ناجمة عن صيرورتهم الحياتية المادية. ولذلك فالدين يعيش على الأرض وليس فوق السماء كما يتخيله الفكر المثالي وهو ليس ثمرة وحي فوق طبيعي ولا هو كذلك حصيلة خديعة دبَّرها الكهنة وعلماء اللاهوت في فترات تاريخية متباعدة متواصلة، "وإنما هو وعي الذات والشعور بالذات لدى الإنسان الذي لم يجد بعد ذاته أو الذي فقدها... الدين هو النظرية العامة لهذا العالم، خلاصته الموسوعية، منطقه في صيغته الشعبية، موضع اعتزازه الروحي... عزاؤه تبريره... نعم إنه التحقيق الروحي للكائن الإنساني ولذا فهو زفرة المخلوق المضطهد، روح عالم لا قلب له، إلخ"... ولذا فإنه ينبغي وبالضرورة فهم السماء انطلاقاً من الأرض وليس كما يتصور البعض الهبوط من السماء إلى الأرض. ولقد كان الدين من وجهة نظر المفهوم المادي الجدلي انعكاساً واهماً في دماغ البشر للقوى الخارجية الممثلة في الطبيعة والمجتمع، والتي تسيطر على وجودهم اليومي، ومن مثل هذا الانعكاس الواهم تتخذ القوى الأرضية شكل قوى فوق أرضية. لقد صنع الإنسان صور كثيرة للدين متغيرة بحسب الأزمنة وصحيح أن الدين كان قد ولد، ... وصحيح أن الدين كان قد ولد في عصر جد سحيق من "الحياة الشجارية" إلا أن الإنسان هو مصدره، وقد عبد حينها بعض النباتات واتخذ من حيوانات لها خصائص معينة كالثور أو الأسد أو النعجة... إله انتسب إليه وزعم أن له طبيعة ذلك الطوطم... وكان ذلك نتيجة تمثيلات بدائية مليئة بأخطاء وتمثيلات للبشر الذين يعبدونها، وتتعلق بطبيعتهم الخاصة وبالطبيعة الخارجية المحيطة بهم، وأن تلك التمثيلات البدائية، والتي هي في معظم الأوقات مشتركة –نتيجة لبدايتها- بين كل مجموعة من الشعوب تتطور مستقبلاً بعد "استقلال" المجموعات على نحو خاص ومميز لكل شعب عن الآخر.
تؤكد المادية التاريخية على أن الدين عند أتباعه وأنصاره ليس سوى وعي لذاتهم الضائعة أو شعور بذات الفرد تجاه ذاته التي لم يجدها بعد، أو التي فقدها نتيجة سبب من الأسباب الشخصية، وهي التحقيق الروحي لكينونة الإنسان المؤمن. ذلك أن الكائن الإنساني المتدين يرفض أن يكون له واقعاً مادياً فقط في هذا العالم فيكرس تحقيق كيانه بكينونة روحانية يتمثلها في ذهنه كقوة كلية القدرة مطلقة الفعالية.
أن الشعور الديني هو نتاج اجتماعي خاضع لسير التطور التاريخي لأية جماعة أو شعب وليس شيئاً قائماً بذاته، مستقلاً عن عالمنا الموضوعي. أنه جزء من هذا العالم بل هو تصعيداته الوجدانية وفيضه العاطفي، والتي يخلقها الإنسان عند الضرورة والحاجة إليها ويتم رفضها عنها في حالة تطوير الإنتاج المادي للمجتمع وتبديل علاقاته الإنتاجية..وبتغيير واقعهم يغير الناس فكرهم ومعتقداتهم، والتي يمثل الدين خلاصتها.
وفي مرحلة متقدمة من تاريخ الحضارة الإنسانية قام الدين بدوره في توجيه الناس أفراداً وقبائل وشعوباً، حين كان مرتبطاً بشروط وجودهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية البسيطة. وأدى دوره في الحضارة اليمنية، كما أدى دوره في حضارات شمال الجزيرة العربية وشعوب الهند والصين، وغيرها من الأمم المتحضرة في ذلك الحين.