يهدف هذا المساق إلى التعريف بالاصول والمرتكزات الفكرية ، والمرجعيات الفلسفية التي تقوم عليها مناهج البحث في الفكر الغربي،وبيان أن مناهج البحث ترتكز كليا على المقولات الاساسية التي تشكلها الرؤية الكلية وتصبغ عليها صبغتها ،وعليه يصبح القول بان هذه المناهج تقو
أنت هنا
قراءة كتاب الأصول المعرفية لمناهج البحث في الفكر الوضعي والفكر الإسلامي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الأصول المعرفية لمناهج البحث في الفكر الوضعي والفكر الإسلامي
ثانياً : أرسطو:
يكاد يكون أرسطو أول من كتب كتابة منظمة في الفلسفة الاجتماعية في الفكر اليوناني ، ويعتبر كتابه السياسة من أهم كتبه في مناقشة نظرياته في شئون السياسة والاجتماع ، وعالج فيه نشأة الحياة الاجتماعية والدعائم التي يقوم عليها المجتمع السياسي باعتبارها من أهم مقومات نظرية الدولة.
كان أرسطو وضعياً فيما قدمه من دراسات اجتماعية يصف ويشرح ويحلل ويقارن ثم يكشف وجود وعلل الفساد فيقر ما يراه محققاً للمعايير السوية في نظره، ويختلف أرسطو عن أستاذه أفلاطون الذي أسرف في استخدام المنهج العقلي، فقد درس أرسطو المجتمع كما درس أجزاء الطبيعة الأخرى، وأتم بهذه الدارسة ما أسماه فلسفة الأشياء الإنسانية ، وقد اتبع في دراسته المنهج التاريخي التحليلي[12]،حيث كانت نظريات أرسطو قائمة على رد المركب إلي عناصره غير القابلة للتحليل، وعلى اعتبار أن الرجوع إلي أصول الأشياء و تتبع تطورها هو الأسلوب السليم لدقة ملاحظتهما، وقد كان أشد اعتماداً على التجربة النظرية بوجه عام سواء في بحوثه الاجتماعية أو في بحوثه الفلسفية[13].
وأهم النظريات الاجتماعية التي عالجها أرسطو في كتابه السياسة هي نظرية نشأة المجتمع ومقوماته، نظرية الرق، نظرية قيام الثروات ونظرية قيام مجتمع فاضل على غرار جمهورية أفلاطون.
مفهوم العلم عند أرسطو :
رفض أرسطو نظرية المثل الأفلاطونية لأنه رفض أن يقبل وجوداً مستقلاً خارج الذهن سوى للأشياء المادية، وحدد عاملين فقط لا ثالث لهم: عالم الأشياء المادية المحسوسة، وعالم الأذهان من أفكار وتصورات وأوهام، ولا يقبل أرسطو عالماً ثالثاً بين هذين العالمين، يشارك العالم المحسوس في الوجود المستقل خارج الذهن ويشارك العالم الثاني في كونه غير محسوس، وبالضرورة يرفض أرسطو عالم المثل حيث توجد الأشياء المعقولة والكليات، والمعاني الكلية عنده توجد في الذهن وليس لها وجود مستقل عن الذهن، ويقوم الذهن بتكوين المعاني الكلية بعملية ذهنية هي عملية التحديد، أي أن المعاني الكلية توجد في نفس الأشياء المحسوسة، وهي الصفات الجوهرية المشتركة للأشياء التي تنضوي تحت نوع معين أو جنس معين، وهذا المعنى الكلي الذي يتحصل عليه الذهن بعملية التجريد ليس سوى فكرة في الذهن ولا يتمتع بأي وجود خارج الذهن[14].
وعليه فإن العلم عند أرسطو هو تلك المقومات والنتائج اليقينية الضرورية التي يتمخض عنها القياس، والذي هو نوع من الحكم الاستنباطي يتكون من مقدمتين، تنبني على ثلاثة حدود هي أسماء كلية لها مدلولات كلية أو ماهيات وتقود استدلالياً إلى نتيجة فإذا صدقت المقدمتان كانت النتيجة صادقة بالضرورة. فالقياس هو المثال الأعلى للعلم عند أرسطو، ومنه تتحدد خصائص العلم عنده وهي:
1. أن العلم لا يتعلق بالجزئيات، بل تتصف المقولات العلمية بالقدرة على التعميم فلا علم إلا بما هو كلي.
2. وأن يتصف بالثبات، وذلك لا يتعلق بحقائق الأشياء الجزئية وما هي إلا ماهياتها، وهذه الماهيات ليست سوى المعاني الكلية للأشياء، وهكذا استبدل أرسطو الوجود المتعلق بالمثل الأفلاطونية بالوجود الماهوي.
3. كذلك يتصف العلم باليقين[*] الذي لا يخالطه شك[15].
وقصارى القول أن العلم اليوناني وصل ذروته مع أرسطو " المعلم الأول " الذي أقام علم المنطق ووضع قواعد المنهج العلمي الاستنباطي وكذلك المنطق الاستقرائي ومنطق قياس التمثيل. واستخدم منطق الاستقراء والمنطق التجريبي في علوم الحيوان وعلوم الأحياء عموماً، ووضع جذوراً بالغة الأهمية لمرجعية الفكر الوضعي الغربي الحديث.
ثالثاً : أبيقور:
قامت نظرية أبيقور على نمط المصالح العامة والمقاصد التي تهدى إليها ، وركز على نظرية الدافعية في رؤيته الاجتماعية ، وقد قسم أبيقور الدوافع الإنسانية إلي ثلاثة أنواع : دوافع طبيعية ضرورية مثل الطعام والشراب ، ودوافع طبيعة غير ضرورية مثل الأطعمة الكمالية والحب وتكوين الأسرة، ودوافع غير طبيعية وغير ضرورية مثل الثراء والمجد والسؤدد والجاه في المجتمع.
ويرى أن الإنسان العاقل الحكيم هو الذي يقتصر على إرضاء الدوافع الأولى بشيء من الاعتدال، ويقلل من إشباع الدوافع الثانية جهده، بل يفضل عدم إشباعها، حيث أنه من الخير له أن يبقى عزباً بدلاً من أن يتزوج، ويجب أن يمتنع كلية عن إشباع الدوافع الأخيرة لأنها وهم باطل وسراب خادع، فالمال قليلة كثير متى عاش المرء طبقاً لقوانين الطبيعة، وكثيرة قليل متى عاش طبقاً لما تقتضيه الحياة الاجتماعية، وليست الشهرة والمجد والجاه كلها سوى حمق وجنون. و كذلك فإن الدين في رأي أبيقور أمراً فردياً لا سيطرة للهيئة الاجتماعية عليه.
والعاقل الحكيم كما يرى أبيقور هو الذي يمتنع عن إشباع غالبية دوافعه والذي يقضي على الخوف في نفسه، فلا يخشى الآلهة لأن الآلهة لا تبالي بهذا الكون ولا تهتم به، ولا يخاف الموت لأن خوفه وهم، على اعتبار أنه ليس بين الإنسان الحي والموت من علاقة ، فالموت لا يوجد ما دام الإنسان حياً، فإذا وجد الموت انعدم الإنسان. ويرى أن الإنسان ليس مدنياً أو اجتماعياً بالطبع كما يرى أرسطو، وإنما كان الإنسان في فجر الإنسانية في صراع مع أقرانه، وكان الصراع مصدر الألم، وعندما نشأت الدولة خفت حدة المنازعات بين الأفراد، وبذلك أزيلت الآلام المقابلة. وعلى هذا فإن الدولة نوع من الاتفاق بين الناس يمكنهم التنصل منه متى وجدوا فيه ما لا يتفق مع مصالحهم[16] .
وقد كان أبيقور يميل إلى النزعة الفردية الشديدة مع إبقائه على علاقة الصداقة دون باقي العلاقات الاجتماعية، ويرى أن الخير الأكمل والغاية الكبرى للإنسان هي اللذة التي هي السعادة، وليست الفضيلة، غير أن الفضيلة على المنهج الذي رسمه في تقسيمه للدوافع المؤدية إلى اللذة هي الوسيلة الفذة إلى اللذة والسعادة، وإلى تجنب الشقاء والألم، ومن الجلي أن آرائه هذه حول المصالح العامة والضرورات الأساسية والمقاصد الكلية التي رسمها، كان لها أثر كبير على نظرية المصالح والمقاصد في الفكر الغربي، وليس من المستبعد أن تكون هي الجذور التي بنى عليها بنزام مقولاته، والمتعمق في آرائه هذه ينظر إلى بعض جوانب الفكر الوضعي المعاصر تبدو جلية واضحة.