كتاب "هكذا أتشبه بالحجر" للكاتب الجولاني السوري نضال الشوفي؛ يضم قصصُا يستوحيها الكاتب والقاص ما أِشبه بالمراحل ما قبل وبعد، فيقول في مقدمة قصته الأولى التي حملت عنوان الكتاب: "لا أعرف شيئا عن «ماكس أوب»، حيا كان أو ميتا، كاتبا أو شاعرا أو شيئا غير ذلك، كهل
أنت هنا
قراءة كتاب هكذا أتشبه بالشجر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 2
هكذا أتشبه بالشجر
لا أعرف شيئا عن «ماكس أوب»، حيا كان أو ميتا، كاتبا أو شاعرا أو شيئا غير ذلك، كهلا عرافا يتأمل من شرفة الثمانين تلالا قريبة مفروشة بالغاب، أو يافعا يلاحق الكؤوس بين حانة وأخرى، وعندما ينتشي بالخمر والوجوه يروق له أن يكنّي النساء بأسماء فاكهة غير مألوفة .
لا أعرف شيئا عن الرجل سوى عبارة قصيرة لا أذكر من أين سقطت على سمعي واستوطنت طرف لساني، فاستأنستها وغسلت كلماتها بلحن جنائزي رتيب، ودندنتها كلما كنت وحيدا، وما أكثر ما أكون ...
دندنتها كلما شج الهواء عروق دالية معرشة على شباك غرفتي فينقشع ذاك السياج الشائك وهو يحجز خلفه الأشجار والعشب البري، وآثار أناس ازدردت ألغام الحقل أطرافهم، ونثرت بقايا العظام هنا وهناك.
ودندنتها ممزوجة بلهاثي وأنا أقتلع قدمين ثقيلتين تغرقان وسط التراب المحروث، كلما سرت بين أشجار يانعة تنزاح خضرتها عن هاوية تنتهي بالحقل المدجج ذاته:
«الإنسان غلطة، والعالم خلق للأشجار ...»
«العالم خلق للأشجار ...»
في بلدتي الشرق بحالة انفصام منذ عقود، لا يعدو كونه شروقا أو غروبا شمالا أو جنوبا، الشرق سياج وحقل ألغام يحجز أمداء تبثني نبض رجل أورثني قسمات وجهه، وسواد شعره ،واعتدال قوامه ثم رحل.
كانت الحرب موعده، فالتقط رشاشه وودع أمي والتحق بكتيبة ظلت ترابط عند وهدة قريبة حتى انكشفت للطائرات. فتقهقرت بعد نفاد الذخيرة وازدحام الأجساد في الغمر القاني. أبي ذو الشعر الأسود والقامة المعتدلة، استبسل بلا أمل هناك على مشارف قريته، وانسحب ذليلا يلقي على كتفيه سلاحا فارغا ينفث الدخان، وشابا يافعا مقطع الأطراف.
تقول أمي بنبرة منكسرة: كانت الطيور المذعورة والشمس والطائرات فوق الرؤوس، وأنتما تتقلبان في بطني فلا أقوى على العدو كما يفعل الناس ...
فيتبرم أخي التوأم ويصيح: والله قد صدعت رؤوسنا بهذه الحكاية.
تصمت أمي، وأغمغم بدوري مشفقا: ليتك يا أمي خلقت شجرة.
يفرقنا موعد النوم كل إلى فراشه، فأعلّق نظري في عتمة السقف، وأفرد أجزاء الحكاية في عقلي متمما فصلها الأخير على هواي، علّي أدرأ غيضي من سلوك أخي الغارق في النوم في الزاوية المقابلة.
أقول في سري: سامحه الله، متى يكف عن التذمر، وينقطع عن رفاق السوء؟ متى يقطر معي عرقا في الأرض التي من دونها لا حيلة لنا ولا معيل؟ يطول تحديقي في اللاشيء وأنا أوزع اللوم بين أخي التوأم وأبي الغائب من قبل أن نولد، فيمتح الليل حتى يهدني الإرهاق وأغفو
في الصباح، أنهض بمفردي متثاقلا مغمض العينين تقريبا، أستدّل بصوت أمي يكرر النداء ريثما تلسع برودة الماء جلدة وجهي. أضع رداء العمل على جسدي، وألتقط زادا أعدته أمي على مهل لشخصين بالغين أو أكثر، أتركها لعناء أليف لا طائل منه مع أخي، وأتخذ وجهتي إلى البستان.
في بلدتي، الناس تصحو قبل الشروق، تدب خطاهم في الشوارع بصمت وهدوء حتى تطل الشمس من خلف التلال، فينحلّ في أبدانهم أثر النعاس، وتنشط الألسن وتدور على ذات الكلمات، وتهافت السؤال عن أخبار أبي الغائب، عن رتبه العسكرية الجديدة، وخالتي زوجة أبي وأخوتي البعيدين. فضول ينفخ في الصدر ضريم الهموم:
في أي مدينة يقطن والدك هذه الأيام؟
هل يرسل لكم مالا بوسيلة أو أخرى؟
متى سيسعى للقياكم في بقاع محايدة؟