كتاب "هكذا أتشبه بالحجر" للكاتب الجولاني السوري نضال الشوفي؛ يضم قصصُا يستوحيها الكاتب والقاص ما أِشبه بالمراحل ما قبل وبعد، فيقول في مقدمة قصته الأولى التي حملت عنوان الكتاب: "لا أعرف شيئا عن «ماكس أوب»، حيا كان أو ميتا، كاتبا أو شاعرا أو شيئا غير ذلك، كهل
أنت هنا
قراءة كتاب هكذا أتشبه بالشجر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 5
الغمر
حرصك الدائم على هبوط الدرج قفزا على ساق واحدة، لم يعوّض شيئا من طفولة مسها الحلم. بعد القفزة الأخيرة كان دائما يتلقفك ممر معتم ينتهي إلى باب وحيد، كنت بعد فتحه تنتحلين دور الواعظ الذي يكرر ذات الخطاب عن الفارق الهش بين الجنون وبين الثمالة. لعلك في مثل تلك الطقوس كنت تتناسين عامدة، أنه في الحالتين ما من مجيب، وربما كان ذلك آخر ما يبتكر رأسك الجميل من سبل ترثين بها حالي. لكنك مؤكدا ما كنت لتعودي مُذ تفتحين الباب طفلة، ومؤكدا أيضا أنه مُذ يطالعني قدّك المسحور زرافة، ويزهر صوتك النابت فوق الأثاث، تهون عليّ أثقال المبنى الرابض فوق حجرتي الصغيرة، فألقاك بخطابي المعهود، الذي أعددته لك يوما عن الفارق العظيم بين رعابيب الدنيا وبينك، وأتلوه بشعر عن معذبتي التي تجيء في غيهب الغسق.
كعادتك، كنت لا تعيرين هلوستي اهتماما. بعد أن تفضّين ستار النافذة اليتيمة، تشرعين بالتذمر من الفوضى التي خلفتها عربدة السكر وأمارات الجنون. ترتفع نبرة صوتك كلما أمعنت في تقريع مخمور تقهقر من صالات المدينة وشوارعها المبهرجة بالأضواء إلى كهفه الصغير المشبع بدخان السجائر وأبخرة الكحول.
ما كان شيء ليشفع عندك سوى أن أصلب نفسي أمام لوحة تعلو الجدار، أتخشب في مقعدي أمام نافورة ألوان تنبع ما بين الإطار وحواف الصفحة وتسيل متموجة حتى تهدأ عند الاسم الممهور في الأسفل. لحظتئذ، بل في كل اللحظات التي يتجدد فيها الهروب، تسقط دمعة لم أقوَ عليها قط. أجمل مفارقات عمري الذي لم يغدُ طويلا جدا بعد، أنك في كل تلك اللحظات تكونين حاضرة. تزفرين تنهيدة حرّة. تترحمين على صاحب اللوحة. تتلعثمين بكلمات قليلة عن الخيار الواثق للمصير، تبدعين فلسفة عن الرسام الذي يقدم الجسد أضحية إلى النار المقدسة كي تراود ألوانه ذاكرة السنين، وإذ تيأسين مني تصرخين من جديد بأنك سأمتني، وأنك لن تعودي إليّ بعد اليوم، لكنك في اليوم التالي تعاودين هبوط الدرج القصير ذاته، قفزا على ساق واحدة.
أذكر مرة سألتك فيها سؤالا بدا لي في لحظته متزنا ورائقا:
_ ما الذي يدفعك إلى عشق رجل يكبرك عشرين عاما؟
أذكر جوابا لم تمهد له ابتسامة:
_ هل ستموت قريبا؟!
ثم تداركت:
_ العاشق لا تشغل باله الأسباب
هذا أنت.. هذه سجاياك الصريحة، لا يربكك سوى دمعة رجل مهزوم ومنعزل، رجل عافه الشعر واستهلكته الكؤوس حين أترع الصدر حزنا على صديق أورثه ذاكرة نار ضل لهيبها الطريق إلى اللوحة الوحيدة.. رجل تداعت أفكاره فنبهته فجأة أنه لم يناج صديقه بقصيدة واحدة، جل ما فعله أن احتبس داخل قمقمه وأدمن النواح..
في لحظة أخرى قلت بعد أن أسرفت في الشرود، ومسحت وجهي بوقار الحكماء:
_ ما نفع الخطى، ما نفع الساق سوى أن تطوى على الساق، إذا التبست على النفس الدروب