"الحرب في حي الطرب"؛ هي الرواية العراقية الأولى التي كُتبت عن الحرب العراقية الإيرانية، من وجهة نظر أخرى، ليس من وجهة نظر السلطة التي جندت في حينه عشرات الكتّاب والشعراء لكي يكتبوا روايات وقصائد تعبوية في مديح الحرب العراقية الإيرانية التي راح ضحيتها قرابة
أنت هنا
قراءة كتاب الحرب في حي الطرب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 10
اتجه علي إلى مقدمة السيارة، وأخذ يراقبهم من مكانه· كانت أصواتهم تصله متقطعة، وكأنها قطرات تسقط من صنبور ماء في ليل هادئ· يصمتون عند كل اقتراح ليفكروا بعمق· كان هو بين لحظة وأخرى يحدق فيهم ثم يركن إلى نفسه· ويتذكر البارحة· ألم يفكر أيضاً أنه سيموت· لا تزال ذكرى اليوم الفائت عالقة في ذهنه· والآن تبدو كلمات أمه بعيدة كتلك النجوم التي ومضت متألقة· لقد نام ساعتها في حضنها وراحت هي تداعب شعره الأسود المجعد . يمه علي ــ منذ سنين وأنا أفكر متى يصبح علي سعيداً ومرتاحاً· امرأة صالحة وأطفال· يمه حياتك كانت دائماً هادئة وأنا مرتاحة منها. وتصمت برهة ثم:
ــ الحرب يا يمة تعذب روحي· كلما تذهب إلى الجبهة أفكر هل أشوفك مرة ثانية؟ وأفكر ماذا يفعل هناك؟ هل هو عطشان؟ جوعان؟ جريح يطلب المساعدة· نائم· يمة تعرف كم أصرخ بإخوانك الصغار عندما يلعبون وأنت نائم· والآن أفكر، لا يمكن أن أعمل له شيئاً في الجبهة· مرات أفز يا يمة في وسط الليل وأصرخ مثل المجنونة علي لا تموت أوصّيك يمة لا تموت·
وإذ تصمت فإنما لتدفع دمعة تحاول أن تشق طريقاً إلى الوجه الدائري، الذي حفرت تجاعيد الخمسين أخاديد عميقة فيه· وهو لا يستطيع حراكاً - يلامس أطراف ثوبها مستسلماً لحديث النفس الطويل، متمنياً لنفسه إغفاءة طويلة - كان بوده أن يغفو سنين في هذا الحضن ليس في البيت فقط، إنما في الجبهة· لم يقل لها إنه هو الآخر قد فزّ وسط الليل مرات كثيرة صارخاً باسمها· لم يقل لها إنه لا يريد أن يموت وهي بعيدة عنه· هو الآخر كان يسائل نفسه ما الذي تفعله الآن؟ هل نهضت من نومها؟ هل ذهبت إلى السوق؟ هل··· هل؟ ولكثرة ما يتحدث عنها أطلق عليه الجنود اسماً مركّباً : .أهلاً بالوالدة. البارحة اقترحت عليه:
- يمة علي أنا خايفة هذه المرة· خذ نصيحة والدك واذهب إلى الميمونة· هناك لن يصلك أحد·
وككل مرة لم يحاول أن يقنعها ويقنع أباه وحسب إنما نفسه أيضاً فيقول:
- سيكون ذلك متعباً لكم ولي ــ زائداً المشاكل المترتبة على ذلك ــ لقد سمعت قصصاً عن استفزاز عوائل الجنود الهاربين· إنها مجرد أسابيع وستنتهي·
مع نفسه يدرك أن الأمر لا يتعلق بانتهاء الحرب أم تواصلها· إنما يعرف أيضاً أنه مهدد بالموت إذا ما هرب، سيعيدونه إلى هناك وسيعدمونه كما أعدموا الكثيرين· وهو لا يريد أيضاً ــ هكذا يقنع نفسه على الأقل ــ أن يسبب المصاعب لأهله· كان ذلك الشعور يلدغه، ويثقل عليه كحجر· فهو يعرف أنه سيموت طالما بقي في وحدته على خطوط التماس· سيموت حتى وإن استمرت الحرب أسبوعاً آخر لا غير، بل يوماً واحداً· ربما سيموت بعد ساعة· إنه ليس حدساً عابراً، بل يقيناً راسخاً منذ أن رأى الحرب بوجهها الحقيقي· فلقد ظنّ آنذاك أنّها حرب تشبه الحروب التي قرأ عنها في الكتب، في الأيام الأولى من التحاقه في وحدته العسكرية ظلّ معبئاً بالفضول· فكر، ليذهب إلى الجبهة ليرى ما يحصل· بعدها عرف أنه سيموت· ترى لماذا التحق مرة أخرى؟ وكأنّ قوة خفية تدفعه إلى هناك· أحياناً ينعت نفسه بالمغفل ويقول: .هل صحيح أنّك لا تريد أن تسبب لأهلك المشاكل· أم أنك ساذج لا أكثر ولا أقّل. ثم يجيب نفسه: .حسناً أنا ساذج ولكن أنا وحدي من له الحق في الشتيمة. هل هو مشدود إلى البشر هناك؟ فالبارحة كما في المرات السابقة يكتشف أنّ أيام الإجازة باستثناء فرحه لمنظر أهله ــ مملة ولا تكون ممتعة إلا حين يفكر بالعودة إلى خطوط النار ــ لا يدري ما إذا كان يشعر بشيء من الصفاء مع جنود حظيرته أو بطّاريته على العموم ــ هناك حيث يتقاسم مع الآخرين .كعكة الموت. كما يسميها· نوع من التضامن البشري ــ ربما؟ التضامن مع من تراه ضائعاً مثلك· كيف؟ ولماذا؟ تلك أسئلة يزيحها حالما تتواتر في ذهنه ــ بالنسبة إليه كلهم ميتون، يسخر من أولئك الذين يعتقدون أنهم لا يزالون أحياء· والآن تنغرس تلك الفكرة في أعماقه، الآن يعرف أكثر من ذي قبل أنهم ميتون لا محالة·


