أنت هنا

قراءة كتاب حياة اسبينوزا - من الطائفة إلى الدولة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
حياة اسبينوزا - من الطائفة إلى الدولة

حياة اسبينوزا - من الطائفة إلى الدولة

كتاب أو رواية (حياة اسبينوزا - من الطائفة إلى الدولة)؛ يقول عنه الكاتب د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 9

 يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل عمل أقطاب الطائفة على تأليب رأي السلطات الدينية المسيحية على اليهودي المارق الذي يعادي كل دين، حسب رأيهم. ومن جهته، لم يسعَ سبينوزا إلى الدفاع عن نفسه، بل قام بتجاهل القرار والإصرار على الابتعاد عن الحياة الطائفية وفك ارتباطه معها، تأهباً لحياة جديدة. ويتضح هذا الاختيار الحاسم في مجموعة من المؤشرات الدالة. فبعد نطق قرار الفصل حاولت أخته ريبيكا دي سبينوزا استغلال وضعه الجديد كمنفي من حرم الطائفة لحرمانه من الإرث الأبوي. فلجأ سبينوزا إلى القضاء مطالباً بحقوقه كأي مواطن هولندي حر. وبعد صدور حكم المحكمة المدنية لصالحه قرر الفيلسوف، بمحض إرادته، التخلي عن الإرث الأبوي جملة وتفصيلاً، وفي الآونة نفسها قرر التخلي عن مزاولة التجارة في شركة أبيه، كما سيتوقف عن أداء الواجب المادي الذي يؤدى عادة من طرف المنتسبين لفائدة الطائفة. ولا يعرف بالتأكيد هل كان امتناع سبينوزا هذا راجعاً لتدهور تجارته أم كشكل من أشكال التعبير عن تخلصه التدريجي من رواسب الحياة اليهودية. ويرجح كليفر الرأي الأخير. ولا أدل على ذلك من إقدامه على تغيير اسمه من باروخ دي سبينوزا، ذي الأصل العبري إلى بندكتوس سبينوزا على طريقة الإنسانيين الأوروبيين، معلناً بذلك قطع صلاته بجميع رواسب انتمائه القديم، وانخراطه في أفق مغاير ودائرة انتماء جديدة. هكذا، ورغم أن عقوبة الحرم الكبرى التي نفذت في حق سبينوزا لم تخلف لديه أثراً نفسياً بليغاً، فإنها ظلت علامة فارقة في حياته ومساره الفكري. ومع ذلك فهو لم يفوت هذه الفرصة دون أن يعلن عن موقفه وأفكاره، فجاء رده عبارة عن رسالة دفاع عن النفس تحت عنوان أبولوجيا، كتبها بلغته الإسبانية المتقنة، لا كنوع من الاعتذار أو الاعتراف بالذنب، كما فعل صديقه دو برادو الذي امتثل لإكراهات الطائفة من قبل، وإنما كنوع من التفسير والشرح لقناعاته وأسباب اختياره الخروج طواعية عن طريقة الطائفة التقليدية. وفي شهادة يعود تاريخها إلى سنة 1694، يقول معاصره سلمون فان تيل، أستاذ بجامعة ليدن، القريبة من لاهاي، إن سبينوزا لم يبعث برسالة دفاعه لأعضاء الطائفة وذلك تبعاً لنصيحة أصدقائه، ولكنه ضمن محتوياتها في كتابه الذي سيؤلفه في وقت لاحق تحت عنوان رسالة في اللاهوت والسياسة(16) الذي يدعو فيه إلى مشروع دولة حديثة تقوم على التعايش والتسامح والحرية الفكرية والسياسية. وكأننا بالفيلسوف يضع ها هنا، بحس استشرافي مبكر، اللبنات الأولى لفكرة الدولة الحديثة، الحاضنة للتعدد والحرية والتسامح، كبديل واضح لمنطق الطائفة وسياجها الدغمائي النابذ لكل اختلاف واجتهاد عقلاني. إذا صح ما ورد ذكره عن رسالة أبولوجيا، فإنه يبدو أن سبينوزا ظل مصراً على موقفه لفك الارتباط مع تراث طائفته بشكل لا رجعة فيه، خصوصاً وأن مناخ أمستردام بات مشحوناً بالكراهية ضده، سواء من طرف مؤسسة الحاخامات التي حرمته من حقوقه الدينية أو من طرف السلطات الدينية الكالفينية، التي حكمت عليه بحظر الإقامة بالمدينة لفترة. وقد وجدت هذه الكراهية تجسيدها الصارخ في محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها الفيلسوف على يد متعصب يهودي أثناء مغادرته لإحدى قاعات المسرح بأمستردام. فالأكيد من خلال هذا السلوك هو أن سبينوزا أصبح محط استهداف، أو بعبارة أخرى شخصاً غير مرغوب فيه من مختلف الأوساط المتشددة، فما كان أمامه سوى مغادرة المدينة، مرغماً، بحثاً عن مكان آمن يضمن فيه سلامته الشخصية، كما يواصل فيه بحوثه العلمية وتأملاته الفلسفية بمنأى عن منغصات أي عداء خارجي. وليس غريباً أن ينعت الدارسون الفترة التي تلت عقوبة الحرم مباشرة بالمرحلة المظلمة(17) في تاريخ حياة سبينوزا، وذلك لما اعتراها من ندرة في المعطيات حول طريقة عيشه في مستقره الجديد خارج المدينة. ومع ذلك فإن هناك نقطاً مضيئة تسمح بمعرفة بعض اختيارات الفيلسوف آنذاك. يقول روجر سكراتن مثلاً إن سبينوزا عاد إلى المدينة بعد فترة قضاها ببلدة أوفركرك، في ضواحي أمستردام. وإلى حدود 1660 ظل يعتمد على نفسه بإعطاء دروس خاصة في الفلسفة الديكارتية، ومزاولة حرفة صقل العدسات(18). وفي ذلك الإبان توطدت علاقته مع العديد من رجالات العلم والفلسفة، نذكر منهم على وجه الخصوص، يارخ يليس الذي سيصبح راعي أعماله فيما بعد، وسيمون دوفريس، الذي سيوصيلسبينوزا بمنحة سنوية ضمن ميراثه بعد وفاته، اعترافاً بقيمة الفيلسوف ودعماً لأفكاره الطلائعية الجديدة.

الصفحات