رواية "إحداثيات الإنسان"؛ من الصعب اختصار ما تحاول هذه الرواية قوله، وهذا يعود إلى طبيعة أحداثها وخيالاتها التي تدور في السجن، بفضائه الوجودي الأوسع، ليس الزنزانة كموقع، بل كرقعة لا يمكن النظر إليها إلاّ من خلال علاقات "طوبولوجية" كثيرة ومتشابكة - مقادارية
أنت هنا
قراءة كتاب إحداثيات الإنسان
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 1
الفصل الأول
نجمة متمركزة في صدر السماء، ترى انعكاس روحها، على صفحة نهر جارٍ من تحتها.انعكاس خالد، وعلى هاربٍ منه خالد هو
الآخر، وفي فلاة ثانية وبعيدة،..
لا شيء يشبه انعكاس تلك النجمة الثابت على ظهر نهرها المتحرك أكثر من هذا المكان.شيء قاتلٌ جداً أن تبقى جامداً بلا معنى على
تيار زمن يجرف الكون والحياة نحو غاية تتوارى في المجهول.
فلو كان الزمن صدأ كل شيء فهذا المكان من اليرقات التي مَنَّت فمها بخلق ثغرة بين الأزل والأبد.
إنه محاولة رخيصة قام بها الإنسان لإتلاف الزمن والبول على أهميته الشائعة في دنياه.
هنا في جوف أكبر سجن بمدينة ابن الحضارة التي سُمِّيَت في زمن ماضٍ أو لاحق ود مدني، تنتصب أبراج المراقبة كأذناب العقارب،
والعساكر كالحو الوجوه يملؤون أحشاءها برائحة عرقهم وعطن البارود.ظلال هذه الأبراج تغطي أشباح المارّين من تحتها بالنهار،
وبعد الغروب تطاردهم أضواء المصابيح الضخمة المُثَبَّتة على هياكل تروس كالساقية، لتلف بها الليل بطوله، كي يتفَقّد الحُرَّاس كل
جحر في سماء وأرض ذلك المكان.عندما تسقط أضواء المصابيح وهي في تلك الحركة الدائرية، والمتقَطِّعة، على البشر الذين يمرون
من تحت الأبراج، يلوحون كشخوص ينتجهم وهم ماكينة سينما من ذلك النوع الذي ظهر كأوَّل الموضات وانقرض قبل قرون.
يرفع سانتينو بصره، مساءً، نحو أبراج الشؤم تلك،..
هؤلاء الحُرَّاس أقرب جهة مسؤولة من ناحية السماء، يدمدم سانتينو، وينصرف في ظلال زواله،..
هذا هو المكان الذي يعيش فيه المساجين.أو على وجه الدقَّة الذي يتزاوغون فيه من الموت.
لن يكون وصفه مفيداً، إذ إنّ منظر المكان نفسه له من الأبعاد الخفية ما لصورة الإنسان، التي لا تكون مُلَخَّصة في شكل واحد لتراها
من أول وهلة ثم تنصرف بعد ذلك لتصفها متى شئت.ومادمت تُقَدِّر الأمور على نحو غير الذي تقوم به الكاميرا الآلية فلن تستطيع أبداً
أن تُكَوِّن صورة حقيقية لمكان ما إلا بعد عشرات السنين وملايين الذكريات، أي حين يتهجَّى فيك المكان نفسه.إذ إنّ المكان في ماعون
وحده وبدون ذاكرة أحد لا يشبه شيئاً.
مبانٍ صفراء تندس بين أشجار النيم كأسنان البدو المحشورة بين أكوام التمباك.
السنجك أكثر تلك المباني اصفراراً ومقدرة على المشي.رجل يُعَدُّ في قائمة الموجودات التي لها هنا جذور من الإسمنت.قديم ومُهَدَّم
كمبنى نسيته مشيخة العبدلاب أثناء رحيلها نحو بطن التاريخ.تقابله مارَّاً كالأيام، بلا انقطاع ومتراكماً على نفسه، ما يجعل له خاصية
الانحشار في كل شيء، مع احتفاظه بخصوصية الزمان البعيدة عن أنف كل شيء.