رواية "تحولات" للكاتب الكردي العراقي زهدي الداوودي، نقرأ منها:
أنت هنا
قراءة كتاب تحولات
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
تحولات
الصفحة رقم: 4
وعادوا بصمت· وأما أنا فأردت أن أبقى إلى جانب كومة التراب التي أضافت قبرا جديدا إلى المقبرة المقفرة الواقعة على مرتفع ترابي يشقه طريق ضيق يربط القصبة ببساتين المشمش المنتشرة على الجانب الغربي· إنها المقبرة نفسها التي تتحول في الربيع إلى ربوة خضراء يغطيها بساط من الأزهار الملونة· والقبور التي تراكمت وتزاحمت جنب وفوق بعضها البعض تحتوي على موتى كل العصور· الآن عرفت لماذا اختار المرء مكان المستوصف جنب هذه المقبرة· ولماذا تم بناؤه بهذا الشكل، إذ تطل البوابة الرئيسة على الشارع العام، في حين تطل البوابة الخلفية على المقبرة مباشرة· لا شك في أن معظم المرضى وضحايا الانتقام الذين اخترق الرصاص أجسادهم، قد دخلوا من البوابة الرئيسة وهم أشباه أحياء؛ كي يخرجوا جثثا مقمطة بقماش أبيض من البوابة الخلفية التي عرفت الآن وظيفتها· المستوصف إذن محطة سريعة إلى العالم الآخر· هذه العلاقة بين المستوصف والمقبرة اكتشفتها في وقت مبكر جدا، فقد سمعت أحدهم يقول ذات مرة، إن المريض الذي يدخله لا يخرج إلا من الباب الخلفي؛ ليستقبله القبر الجاهز الذي حفره عمال البلدية· وأحيانا يرمون بالجثة في القبر دون أن يغسلوها أو يلفوها بالكفن، كما حدث ذات مرة مع جثة بدوي سبق أن قتلوه ورموا بجثته في العراء· وكانت قد انكمشت وتيبست وتحولت إلى سواد فاحم· جلبوا الجثة إلى المستوصف لإجراء الكشف الطبي عليها لمعرفة القاتل· ودسست نفسي كالعادة في الجمع الفضولي المتفرج لمعرفة كيفية إجراء الكشف· نظر الطبيب إلى الجثة المتصلبة الملفوفة بالحصير مشمئزا، ثم التفت إلى مفوض الشرطة قائلا: ماذا تريدني أن أفعل بها، إنها كما ترى تحولت إلى فحم· أجاب المفوض كما لو أنه يريد أن يتخلص من مشكلة بأسرع وقت ممكن: لا أريد منك سوى تصريح بالدفن وإلا سنصاب بالطاعون·
واكتشفت أيضا أن الجانب الأيسر الملاصق للمستوصف هو المكان المخصص للموتى غير المعروفين، أو للجثث التي غالبا ما كانت الشرطة تعثر عليها خارج المدينة، بخلاف الجهة اليمنى التي تحتوي على مزارات مكعبة ومسيجة بقبور تحمل شواهد من الرخام، تحمل أسماء المدفونين تحتها وتواريخ ميلادهم وموتهم· كنا نتجول نهارا في المقبرة دون أن تهزنا أو تخيفنا الحكايات التي نسمعها عن خروج الموتى من قبورهم أو عن ذلك الحيوان المرعب الذى يأوي إلى القبور ويفترس الجثث، بيد أنه ما إن يحل المساء ويخيم الظلام الدامس على المقبرة، ويرتفع العويل المرعب الذي كان يقول عنه البعض بأنه صياح الأرواح المعذبة، والبعض الآخر يدعي أنه عويل بنات آوى، كنا إذ ذاك ننظر إلى المقبرة عن بعد، دون أن نفكر في الاقتراب منها· ونحن نروي قصص أولئك الشجعان الذين تراهنوا أن يذهبوا إلى المقبرة في وقت متأخر من الليل· ولكي يثبتوا أنهم دخلوا مزارا معينا، كان عليهم أن يتركوا هناك أثرا ملموسا بغية تفحصه في اليوم الثاني· كان على هذا المتراهن أن يدق هناك خازوقا، وفعلا قام هذا الرجل الجريء بفعلته، ولكنه عندما انتهى من دق الخازوق وحاول القيام من مكانه لترك المزار، جره الميت من طرف ثوبه، فمات في الحال· هكذا تصور الناس الحادث، ولكن الحقيقة التي أخفاها المتراهنون عن الناس، هي أنه من شدة خوفه وانفعاله دق الخازوق على طرف ثوبه الذي ربطه بشدة على أرضية المزار، فتصور هو نفسه بأن الميت قد مسكه من طرف ثوبه، وكان أن مات بالسكتة القلبية·