أنت هنا

قراءة كتاب أعيان الشام وإعاقة العلمانية في سورية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أعيان الشام وإعاقة العلمانية في سورية

أعيان الشام وإعاقة العلمانية في سورية

يرصد الكاتب صقر أبو فخر في كتابه «أعيان الشام وإعاقة العلمانية في سورية» الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والــنشر في بيروت؛ تطورات تكوّن النخب في ســـورية من مرحلة الانتداب الفرنسي، مروراً بمرحلة الاستقلال، إلى المرحلة التي حكم حزب البعث فيها، وصولاً إلى

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 1
تقديـــم
 
من دولة متصدعة إلى دولة محطمة
 
يحوم في سماء سورية اليوم شبح راعب يهدد بتقطيع أوصال هذا البلد، الذي عرف العمران والاجتماع منذ نحو عشرة آلاف سنة· وهذا الشبح بات ينذر بمحو علائم التحضر والتمدن الذي انطلق من دمشق وحلب قبل أربعة آلاف سنة ليغمر بلاد الشام كلها، ويَسِمُها بميسم الحضارة الآرامية الزاهية التي امتزجت فيها الثقافة الهيلينية بالعربية أيما امتزاج، ونشأت في ربوعها، وفي سياق نهوضها التاريخي، المسيحية الأولى، ثم الدولة الإسلامية الأولى أيضاً· ولولا دمشق ودولة الأمويين التي أطلقت الفتوحات اللاحقة، لربما بقي الإسلام مجرد ارتحال قبلي من الفيافي القاحلة في نجد والحجاز إلى الأفياء الخصبة في العراق والشام ومصر، على غرار غزوات بني هلال وغيرهم من قبائل العرب· لكن دمشق وفرت لهذه الحركة السياسية والاقتصادية الجديدة المتسربلة بفكر ديني جديد إمكان الاستمرار والانتشار، فتحول الإسلام جراء ذلك، إلى مؤسسة راسخة في مدينة آرام ذات العماد·
 
ظلت دمشق دائماً العاصمة التاريخية لبلاد الشام قاطبة، وانعقدت لها مكانة لا تضاهى بسبب موقعها الفريد الذي يتوسط آسيا الصغرى والعراق ومصر· وكانت فتحتها البحرية تمتد من مرسين وأضنة في الشمال حتى غزة والعريش في الجنوب· وقد اجتمعت في أرجائها أقوام شتى طلباً للتجارة أو للاستقرار أو للعبادة، كالأكراد والشركس والتركمان والأروام والأرناؤوط والأبخاز والهوارة والداغستان واليهود والأرمن والعجم والمغاربة، الأمر الذي منحها طابعاً كوزموبوليتياً· لكن هذه الفتحة البحرية الممتدة على طول الساحل الشرقي للبحر المتوسط راحت تضيق وتتقلص بالتدريج منذ منتصف القرن التاسع عشر فصاعداً، حتى إذا أطل القرن العشرون كانت ضربة قاصمة تتهيأ للانقضاض على دمشق العاصمة، وعلى بلاد الشام كلها، فتفككت سوريا التاريخية إلى كيانات جديدة، وانتزعت اتفاقية سايكس ـ بيكو منها الساحل الفلسطيني، وفيه ميناءي حيفا ويافا، لمصلحة وطن قومي يهودي، ثم الساحل اللبناني، وفيه موانئ صيدا وبيروت وطرابلس، ليكون شاطئاً لـِ دولة المسيحيين، ثم لواء الاسكندرون وفيه ميناءا مرسين واسكندرونة، ولم يبقَ لها إلا فتحة صغيرة بين رأس البسيط ومدينة طرطوس، وتحولت دولة شبه برية تجهد لاستعادة مكانتها المفقودة، في الوقت الذي كانت تجاهد للاحتفاظ بنصيبها من التجارة والسياسة· وفي معمعان هذا الهول الذي حل بدمشق خلال أقل من نصف قرن (بين سنة 1860 واتفاقية سايكس ـ بيكو في سنة 1916)، وفي غمرة صراع حلب من أجل استعادة مكانتها القديمة، بعد أن انحطت أحوالها غداة افتتاح قناة السويس في سنة 1869، كانت دمشق تغرق، أكثر فأكثر، في خلافات أعيانها وصراعات أجزائها الجغرافية الجديدة وانقلابات جيشها، الأمر الذي يفسر أسباب الاضطرابات التي عصفت بسورية بعد استقلالها في سنة 1946·
 
مهما يكن الأمر، فإن سورية التي مزقتها اتفاقية سايكس ـ بيكو في سنة 1916، تمزق معها جميع مَن حاول إعادة توحيدها· فالعائلة الهاشمية التي صار أحد أبنائها، أي فيصل الأول، ملكاً دستورياً على سورية، تناثرت هنا وهناك، فبعض أفرادها قُتل (الملك غازي والملك فيصل الثاني والملك عبد الله)، وبعضها انتحر (الأميرة جليلة بنت الملك علي)، وبعضها حاقت به اللعنة فتشرد بائساً في المنافي (الأميرة عزة بنت الملك فيصل الأول)، وبعضها جُنَّ (الملك طلال بن عبد الله والأميرة جليلة قبل انتحارها احتراقاً)· والحزب السوري القومي الاجتماعي الذي اغتيل زعيمه أنطون سعادة في سنة 1949، لم يلبث أن اندفع إلى مغامرات كانت بلا عقل سياسي (اغتيال عدنان المالكي في سنة 1955، والتصدي لجمال عبد الناصر في سنة 1958، والقيام بانقلاب عسكري في لبنان في آخر يوم من سنة 1961)، وأدت هذه المغامرات كلها إلى تمزقه اللاحق· وكذلك اندثرت حركة القوميين العرب ولم تتمكن من توحيد فروعها· وتناثر حزب البعث العربي الاشتراكي كحطام المراكب المبعثرة، وحطم العراق معه، وربما سورية أيضاً·
 
حاولت النخب السورية التي وصلت إلى الحكم في أثناء الانتداب الفرنسي، والتي ورثت دولة متصدعة، أن تؤسس دولة متماسكة· إلا أن أحفاد هذه النخبة بـِ قومتهم المسلحة في سنة 2011 ربما يحولون سورية اليوم إلى دولة محطمة غداً· وهذه النخبة التي برزت غداة صدور قانون الأراضي العثماني في سنة 1858، والتي درس أبناؤها في اسطمبول وأوروبا، وعملوا في الوظائف العامة، حُرمت من تسلم أي مناصب مهمة في العهدين الفيصلي والانتدابي، إلا القلة التي تعاونت مع الانتداب الفرنسي بالتحديد· غير أن الاتجاه العام لهذه النخبة كان النضال في سبيل الاستقلال وتوحيد سورية· وقد تمكن أبناء هذه الفئة من الوصول إلى سلطة الحكم في سورية في العهد الاستقلالي، وأقاموا نظاماً برلمانياً ومقادير من الحريات على قاعدة حلف العائلات الكبرى في دمشق وحلب وحمص وحماه، وتركوا للمناطق الطرفية بعض المواقع الهامشية في الدولة الجديدة· فمنذ زوال الحكم العثماني إلى ما بعد الاستقلال، ظل رؤساء الجمهورية ورؤساء الحكومات والوزراء والنواب يأتون، في أغلبيتهم الكاسحة، من نحو خمسين عائلة موزعة بين مُلاك الأرض ورجال الدين والتجار (علاوة على بعض الصناعيين) أمثال آل الأتاسي في حمص، وآل الحوراني والكيلاني والبرازي والعظم في حماه، والقدسي والكيخيا والجابري في حلب، والسيد وشلاش والشعلان في دير الزور، والقوتلي والعسلي والحفار والدواليبي ومردم بك والعظمة والعابد والغزي في دمشق·

الصفحات