"المثقف والثقافة" إصدار فكري للباحث الأكاديمي الأردني زهير توفيق صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2013 . و تناول في فصوله الثلاثة موضوعات متنوعة عن الثقافة والمثقف ومفهوم الثقافة الوطنية . في كتابه الجديد يقول الأستاذ زهير توفيق:
أنت هنا
قراءة كتاب المثقف والثقافة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
المثقف والثقافة
الصفحة رقم: 3
ومفهوم النخبة مفهوم مفارق لمفهوم الطليعة في التنظيمات والأدبيات الراديكالية، فعضو النخبة يتمتع بالفردية إلى أقصى حـد، ويمتلك سلطة مـادية ومعنوية حقيقية، ولديه مصالح شخصية واضحة، تمنحه القدرة على فرض إرادته، والتأثير في القرارات العامة المؤثرة في حياة الآخرين، بعكس الثاني، الذي لايمتلك إلا سـلطة رمزية أو اعتبارية، يسـتمدها من التنظيم الهرمي، ويفرضها بقوة المثال الأخلاقي المجرد من المصالح والأهواء·
إن مـا يمنح النخب العربية معقولية وجودها واستمرارها، هو تفكُّك الأنسـاق الاجتماعية التي طالت الطبقات نفسها، والاسـتقطاب الشعبي الثنائي بين أغنيـاء وفقراء، بعد تشـرذم الطبقة الوسـطى، وانقسامها إلى وحدات وفئـات يصعب معها عليها اسـتعادة وحدتها وهويتها السـابقة، مـا دامت عمليات الإفقار متواصلة، والدليل على ذلك وجود عشـرات الأحزاب الوسـطية التي تدّعي تمثيل الطبقة الوسـطى·
وتتميز النخبة بقدرتها على إعـادة إنتاج السـلطة والثروة، والسـيطرة على المحكومين، واسـتثمار كـدّهم ووجودهم نيابة عن الطبقة المسـيطرة· أما النخبة الثقافية فلا تملك سـلطة مـادية تفرض سـيطرتها بتسـليع وتسـعير منتوجها الثقافي في مجتمع يقترب مسـتوى الطلب والتطلب الثقافي فيه إلى أدنى مسـتوى، فمـا زال مجتمعنا يلهث لسـد حـاجـاته الأسـاسـية، ومـا زالت الثقافة في تصور البعض خدمة عامة ورسالة إنسـانية؛ أي تفانِ ومجانية·
ويتضاءل تـأثير النخبة الثقافية بسـبب تأثيرهـا البطيء في الوعي غير المنظور، الذي يتعذر قياسه كمياً، ومـا دام الأمر كذلك فهي عاجزة عن تحقيق ذاتها، أو ضمان تأثير فاعل في واقع قابل للملاحظة، إلا على المدى البعيد، وفي ظل تكـامل الأنسـاق الناظمة والداعمة للتقدم والنهوض·
وتسـتهدف النخب الثقافية في سلوكها التغيير والتنوير، وهي بعكس النخب الاقتصادية والسـياسـية، التي تتجلى سلطتها بالتحكم والاستثمار والاسـتئثار بالسلطة· فالتنوير عملية مشروطة باسـتعداد المتلقي، إذا سـلّمنا جدلاً بقدرة المثقف ورغبته في التأثير في اتجاهات المجتمع والوعي الاجتماعي· وقد لا تجد النخب الثقافية أحياناً إلا الانخراط في البنى الاجتماعية الأخرى لتسويغ وجودهـا، وتصعيد مطالب الآخرين، وإضفاء الشرعية والعقلانية عليهـا·
أمـا المجتمع الذي يفتقر لفائض السـلطة والثروة، فهو مجتمع يفتقر تلقائيـاً للقدرة التوزيعية والقسـمة العادلة، وهو ما يعزز إحساس نخبته بالعزلة وعداء الآخرين، فتوحد صفوفها وتعلق تناقضاتها، للمحافظة على ذاتهـا، فيختلط تضامنها العضوي بتضامن المصالح، وتزداد تماسـكاً وتجانساً بالقرابـة والمصاهرة والموالاة، وتتعرض للنخب الأخرى كالنخب الثقافية التي تزداد بؤساً ومجانية·
وحفـاظاً على تكتلها الفئوي، واستمراراً له، تقدم خدماتها للبنى الاجتماعية الأولية، التي صعدت منهـا، وتتحول مسـاعداتها إلى رصيد إضافي من المنـافع التي تجنيهـا لاحقـاً· وهي بهذا تزداد قدرة برأسـمالها المادي والرمزي الذي يمنحها مزيداً من التراكم والاسـتمرارية، وزادها الانغلاق والاستقرار والتوارث تبلوراً بوصفها نخبة جندت بناها الأولية لتصليب عودها، وتمويه هويتها الطبقية، وشرعنة مكتسباتها اللاحقة، وإلحاق الثقافة بمتطلباتها؛ أي بالاستهلاك والتسلية وصناعة ثقافة سياحية تلبي حاجاتها·
وتتعرف النخبة على نفسها بسـهولة بالغة، بوعيها الذاتي بأنها أقلية نافذة، تؤدي وحدتها وتماسـكها دوراً وظيفيـاً لتحقيق الهيبـة والحضور في عيون الآخرين، وكذلك فإن تمـاسك الأقلية يضاعف القوة، ويسهّل تبادل المنافع والمصالح· وبسـبب كونها أقلية، فهي قادرة على تنظيم نفسـها بنفسـها، وخلق الأعراف والتقاليد اللازمة للحفاظ على كيانهـا، واستثمار قدراتهـا في التوسـع والتحكم· والأهم من ذلك امتلاكها التنظيم ومهارات التواصل والاتصال، فتزداد تقارباً واسـتقطاباً، وتنمي مصادر قوتها، فتزداد تكاملاً على مستوى السلطة والثروة والحضور الأخلاقي، باسـتثناء النخبة الثقافية، التي لا تملك رأسمال أو سـلطة لازمة لتحويل رأسمالها الرمزي إلى مكتسبات سياسية واقتصادية·
ولا يمكننا فرز المثقفين أو تصنيفهم كغيرهم، إلا إذا تجاوزوا ذاتهم الثقافية، وعرفوا أنفسهم بالسـياسـة· فالمثقف نتـاج اجتماعي، ولكن مشـروعه الإبداعي مشروع فردي· وفي الثقافـة اتجاهـات وتيّـارات، ولا وجـود لأطيـاف وأشـباح وخصوم طبقيين مباشرين· وهي في معناها الشـامل ليسـت مجرد منظومة، بل هي ناظمة للنسـيج الاجتمـاعي، وقاعدة للممارسـة السـياسـية والاجتماعيـة·