أنت هنا

قراءة كتاب المثقف والثقافة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
المثقف والثقافة

المثقف والثقافة

"المثقف والثقافة" إصدار فكري للباحث الأكاديمي الأردني زهير توفيق صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2013 . و تناول في فصوله الثلاثة موضوعات متنوعة عن الثقافة والمثقف ومفهوم الثقافة الوطنية . في كتابه الجديد يقول الأستاذ زهير توفيق:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 4
الفيلسوف الملتزم
 
يتجاوز الفيلسوف ما هو مرئي، وما هو ظاهري ليغوص بأدواته الفلسفية (النقد، والعقلانية، والمنطق) في الواقع لتشريحه، وتفسيره، والوصول إلى الطبقات التحتية المؤسسة للمعطى المباشر فكرياً وسياسياً· ويشكل المنهج التاريخي مكوناً أساسياً - وليس وحيداً - من مكونات المعرفة والتحليل الفلسفي·
 
ويفترض هذا الاستهلال بالفيلسوف الانزواء والاعتكاف لبعض الوقت، لتأمل الواقع والابتعاد عما هو مباشر، وهي مرحلة ضرورية وتقليد قديم لابد منه لاستنهاض الجماعة وقيادتها، والسيطرة على الواقع بعد فهمه، ومن ثم العمل على تغييره· وهذا هو حال الأنبياء والمفكرين العظام·
 
ويعمل الفيلسوف على تركيب المشكلات، وصوغ الأسئلة وتفسير الواقع، وتغيير المعنى والأدوات· أما انخراطه في عمل مباشر لتغيير الواقع، كالمساهمة في الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، فتحيله إلى مثقف ملتزم، يستشعر التزاماته قبل حقوقه وواجباته، وربما يكون المؤسس أو المنظِّر الذي يقود الحركة الفكرية والسياسية بأفكاره وأساليبه، فيكون زعيماً لامعاً خطفته السياسة من الفلسفة والفكر النظري·
 
وتختلف مساهمة الفيلسوف عن السياسي، الذي لا يقدم إلا حلولاً إجرائية بحجة الواقعية، وغالباً ما يتنازل أو يتراجع أو يناور لأهداف ومسوِّغات واهية، وغالباً ما تكون إجاباته واستجاباته زائفة· والحقيقة أنه عاجز عن تقديم ما هو أكثر من ذلك، فيقوم بتسويغ برامجه وشعاراته، بسبب تراكم المشكلات والأزمات وتشابكها وتدفقها، وغياب الخيارات والحلول الجذرية، وينسى أو يتناسى كونه جزءاً من المشكلة· وليست المراهنة على قدرته على الحل ورغبته فيه إلا مراهنة ساذجة·
 
ولدى السياسي من المشاريع التفكيرية الشىء الكثير، إلا أن ما يميز المفكر أو فيلسوف السياسة عنه هو قدرته على إنتاج أفكاره بالتفكير المنهجي المتسق مع ذاته، والمتضمن مجموعة من المبادئ والمعايير الكلية، التي تضيء الممارسة بالعلم والعقلانية، وتسوغ النظرية بنجاح التطبيق نظرياً وعملياً·
 
ومن الصعب على الفيلسوف أو المفكر السياسي الاحتفاظ بمواقعه ومواقفه الفكرية والنظرية في معترك السياسة، التي تتطلب منه الارتفاع عن التناقضات والصراعات، أو الانخراط في سياسة فئوية لا تمثل الكل، والسهر الدائم لتسويغ وعوده، وتفسير خياراته لجمهور كثير التطلب، نظراً لحرمانه الطويل من المشاركة والحقوق السياسية· وقد يفقد توازنه لاحقاً، نتيجة تعاليه على الصراعات، وتلقيه الضغوط من جميع الاتجاهات والتيارات·
 
يعاني المفكر السياسي أو الفيلسوف المنعزل من وطأة أفكاره والتزاماته بالقضايا الكبرى، إلا إذا استحوذ على سلطة ينتهي بها مصلحاً أو إصلاحياً، يجاهد لإعادة تركيب الواقع المتهالك وتجميله، وتخليصه من الخلل، وربما يطرح وينفذ أفكاراً جريئة عن توزيع الثروة والسلطة على الفئات المتصارعة على النفوذ والمثل، ونادراً ما ينجح في تنفيذ برامجه، فتتحول أفكاره إلى أساطيرمسوغة عقلياً وسياسياً، وتشكل رأسماله الرمزي الذي سيدافع عنه، ويؤكد به حضوره فيما بعد·
 
أما الفيلسوف الحقيقي في السياسة، فهو الهادم والهدام لكل ما هو زائف، ويفتقر للتسويغ العقلي، ويتعدى الهدم والنقد البناء إلى النقض والتقويض، ونزع الأسطرة والمثالية والقداسة عن الأفكار والوقائع الزائفة، فينطق بالشمول والكلية، ويعيد تفسير التاريخ ويموضعه في تاريخيته، ويربط الحقيقة السياسية بواقعها المادي والمعياري، ويتجاوز السياسة التي حاصرت ذاتها بفن الممكن إلى فلسفة سياسية تفكر بالمثال، وبما هومستحيل خارج التوقع والاحتمال· فعلى سبيل المثال، ليست حصيلة اليمين المحافظ في أمريكا، الذي تلبس لبوس الفكر والفلسفة إلا الفشل أو ما يقارب ذاك، فقد افُتضح أمره، ومن ثمَّ عاد إلى المفكرين والفلاسفة والاستراتيجيين المستشرقين الكبار، طالباً النصيحة والمشورة والحلول الممكنة·

الصفحات