"المثقف والثقافة" إصدار فكري للباحث الأكاديمي الأردني زهير توفيق صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2013 . و تناول في فصوله الثلاثة موضوعات متنوعة عن الثقافة والمثقف ومفهوم الثقافة الوطنية . في كتابه الجديد يقول الأستاذ زهير توفيق:
أنت هنا
قراءة كتاب المثقف والثقافة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
المثقف والثقافة
الصفحة رقم: 6
المثقف والسلطة: إبداع أم اتباع ؟!
الكائن الوحيد الذي يستشعر حقه البدهي في الممارسة السياسية والتحكم في الهندسة الاجتماعية للمجتمع والطبقات، هو المثقف في المجتمعات الطبقية، الذي يتصور نفسه سياسياً بالقوة، ومثقفاً بالفعل· وعندما تتقاطع السياسة والثقافة يصبح أو يتخيل نفسه مناضلاً بحكم الضرورة، ويتمسك بالحرية بمعزل عن حتمية التاريخ الموضوعية·
وغالباً ما تناقض تطلعاته براغماتية السلطة، التي تكثّف رأسمالها المادي والمعنوي لإنتاج نفسها، لتجاوز أوضاعها الاستثنائية، وتحول مشروعه الأخلاقي في التغيير إلى تهويمات فكرية يوتوبياوتتحول الدولة التي تزداد قوة وشمولية، إلى ما يشبه القوة القووية كما يقول مطاع صفدي: ويزداد المثقف فيها توحداً وخصوصية وانعزالاً، بفعل التهميش المدروس لتحييده وتقويضه، والتشكيك في دوره وحقه في التدخل في الشؤون العامة، وتجاوز تخصصه الضيق وعمله المحدود، ولا ترضى بتنصيبه مفوضاً للحديث باسم الآخرين في المجتمعات المدنية والطبقية· فهي التي تحتكر التمثيل وأدواته بعيداً عنه، ولا يسع السلطة أن تكتفي بالقوة والجبروت لإخضاع المجتمع السياسي وإلحاق المجتمع المدني وتطويع بناه الحية، بل إنها ترفض الاعتراف بالثقافة نسقاً مهيمناً، كما هو الحال في الأنظمة الشمولية وتعمل على تفريغ الثقافة من طاقاتها الإبداعية، ووظيفتها الأخلاقية والجمالية؛ أي من النقد وإثراء المحتوى الإنساني للإنسان، وإعادة تشكيل العالم· وعندما تتخلى الثقافة عن ذلك تتحول إلى رطانة لفظية لا تقول شيئاً، وتتحول إلى سلطة للتسويغ والتجويز والرقابة الذاتية·
وفي هجومه المعاكس يؤكد المثقف حضوره واستقلاله الذاتي في الحركة الاجتماعية بكونه رائداً أو طليعياً، يطرح أفكاراً صالحة للاستخدام، لكنهاصعبة المنال، بفعل مزاحمة الثقافة الاستهلاكية المبتذلة، التي تستهدف الإثارة واستقطاب المعجبين· وتزداد المفارقة حدة في كيانه وماهيّة دوره الهامشي من جهة، وقدراته الذاتية من جهة أخرى، فيشعر أحياناً أنه صاحب رسالة ونبوءة: نبي أعزل يعجز عن فرض أفكاره الصحيحة، وتحويلها إلى قوة مادية فاعلة، ويعلل ذلك بعمق أفكاره، وهذا صحيح إلى حد ما، أو بإعراض الجماهير صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير·
يقسم المثقفون إلى قسمين: الأول هو المثقف (الحقيقي)، وهو الذي يحتفظ بموقعه النقدي، ويفضل المنفى والاعتزال مكاناً وزماناً على التسويغ والاستخدام الوظيفي، ويجعل بينه وبين السياسي مسافة منظورة لا يسعه اختراقها باتجاه السياسي، ولا يسمح للسياسي بتجاوزها، لكنها قابلة للتحديد والتمديد· والثاني هو المثقف الذي لا يملك مشروعاً للتغيير، ولا يحمل رؤية جديدة للعالم· وهذا هو المثقف المزيف كما يسميه سارتر نقلاً عن نيزان
ظل المثقف مفهوماً وموضوعاً غربياً بامتياز، فهو سليل طبقة الإكليروس: رجال الدين، الذين احتكروا الكتابة والقراءة: الثقافة وتفسير الكتاب المقدس· أما في العصور الحديثة فقد مثلت الرأسمالية مشروعاً ثورياً شاملاً في تاريخ الإنسانية، تمثل بظهور طبقات جديدة، كالطبقة البرجوازية حاملة لواء الحداثة حتى الثورة الفرنسية، التي مثلت أوج تطلعاتها الثورية ونهايتها في الوقت نفسه، وقد ألقت على عاتق مثقفيها كتّاباً وفلاسفة تفكيك الإقطاع عقلياً، قبل تفكيكه اجتماعياً وسياسياً، وتوصل عقلها الحداثي إلى أن الوضع القائم والامتيازات الإقطاعية والاستبداد السياسي أمور منافية للعقل الطبيعي السوي
لقد أصبح هؤلاء الكتّاب بمثابة المثقفين العضويين - بتعبير غرامشي للطبقة البرجوازية، الذين منحوها وعياً ذاتياً لاجتياز مهامها، والقضاء على العلاقات الإقطاعية، وتأسيسها على مبادئ العقل والحرية·
وفي اللحظة التي صعدت فيها البروليتاريا الطبقة النقيض وهي الطبقة الثانية التي أنتجتها الحداثة الرأسمالية، لم تعد البرجوازية طبقة تقدمية، وأصبحت تطلعاتها لا تملك من الشمول أو الكلية ما يسمح لها بتمثيل الإرادة العامة أو التاريخ الشامل·
فقد تحولت في الممارسة الاستعمارية والاستبداد إلى طبقة محافظة حضارياً وسياسياً، بسلب التاريخ قدرته على التقدم، وآمنت بنهاية التاريخ لتصفية تناقضات الواقع، وتحويل منطق التقدم إلى كينونة طارئة، أو وضعية منافية للمنطق العلمي بالمفهوم الوضعي المشتق من العلوم الطبيعية·وظلت البروليتاريا تحدياً خطيراً وحقيقياً إلى أن زال خطره مع تبرجزها الراهن في الدول الرأسمالية على حساب الأطراف·
لقد استعارت الطبقة العاملة مثقيفها من الطبقات الوسطى والانتلجنسيا التي منحتها وعياً ذاتياً بدورها ومهامها التاريخية، لتحويلها من طبقة لذاتها؛ أي من كونها مجرد طبقة معينة في التركيب الطبقي، إلى طبقة مستقلة واعية لمصالحها· وتميز المثقفون في هذا البناء بتحملهم تبعات الصراع الإيديولوجي، وانقسموا إلى محافظين وثوريين·
لم تتنازل البرجوازية عن سلطتها وامتيازاتها وثقافتها بسهولة، بل تنازلت عن ثوريتها، وتصالحت مع الواقع القائم، الذي أضفت عليه المعقولية، فكل ما هو واقعي عقلي ببتر وتشذيب المقولة الهيغيلية المشهورة، وعملت على تسليع الثقافة والقيم، ودمج المثقف في بناها المعقدة، لتحويله مثقفاً مؤسساتياً أو موظفاً أداتياً·